... في يوم الوداع الأكبر - هاني عبدالله

كلّ القلوب كانت هناك

كلّ المشاعر..

كلّ الأحبَّة..

مواكب الملائكة كانت تحوط الموكب..

لم يكن تشييعاً عهدته الأمَّة إلا في محطّاتٍ نادرةٍ جدّاً في تاريخها..

لم يكن وداعاً عهده العالم الإسلاميّ إلا في وقفاتٍ محدودةٍ جدّاً..

علاَّمة العصر، فقيه الأمَّة، مجدّد المجدّدين، فقيه الفقهاء، أديب الأدباء، عالم العلماء.. حبيب الفقراء..

الأب الرّؤوم، القلب الحاني.. الرّوح الآمنة.. عنوان السّلام، نصير الضّعفاء.. عقل العالم..

الكلّ يزحف إلى بحر الأكفّ.. الكلّ يشعر بأنّ عليه أن يمسح على شفاف الجثمان الطّاهر.. الكلّ يتطلًَّع إلى احتضان الأب في لحظة الوداع.. وكأنهم شعروا بأنّ موطن السّكينة الرّوحيّة الكبرى قد رحل.. وكأنهم أحسَّوا بأنّ ملاذ الأمن قد غادرهم..

بحر المحبّين طاف في أرجاء المكان.. في أركان الضّاحية التي ملأها السيِّد علماً وحركةً وجهاداً..

عيون المخلصين فاضت ثم فاضت..

استذكر الكثيرون وداع الرَّسول(ص).. ووداع عليّ.. وتذكَّروا وصيَّة السيِّد: كونوا رسول الله.. كونوا عليّاً ولو بنسبة الواحد إلى الألف..

قال لي أحدهم: لقد شعرت بأنَّ دم الأمَّة كلّه يجري في شريانٍ واحد.. وأحسست بأنّ الأرواح كلّها تسري في روح هذا المكان..

وقلت له: ها أنذا أعيش كلمات عليّ(ع) في رسول الله(ص): "إنّ الصّبر لجميل إلا عليك، وإنّ الجزع لقبيح إلا عنك، وإنّ المصاب بك لجليل، وإنّه قبلك وبعدك لجلل".

تذكّرت بيان النّعي.. وأحسست بثقل المسؤوليّة الكبرى وفهمتها.. الآن فهمت كلامك يا أمير المؤمنين وأنت تنعى رسول الله: "خصّصت حتى صرت مسلّياً عمن سواك، وعمّمت حتى صار النّاس فيك سواء".. وعرفت يا سيّدي، يا من كنت تردّد: "أنا تراب أقدام عليّ(ع).. أنا أتحرّك حيث تحرّك".. أنّك عندما تحاصرك الدّنيا بهمومها وتعقيداتها، تحاول أن تستهدي رسول الله(ص)، وأن تفعل ما تعتقد أنّه كان يمكن أن يفعله أمام هذه الحالة أو تلك..

طافَ الأحبّة حول النّعش.. وكأنَّه البقيّة الباقية.. وكأنَّ آخر هدايا السّماء أوشكت أن تختفي.. وكأنَّ سرّ الأسرار وعبق الأحرار آثر الرّحيل..

"بحرٌ من البشر فاضَ حزناً وعزماً"

"خرج السيِّد من منزله ظهراً، ترك عمّته وسبحته ووشاحه الأخضر، وجالَ بروحه في الضّاحية مودِّعاً.. خرج حاملاً ذكرياتٍ عن الوجود والشّوارع والأفكار والآمال..".

".. كانت الوجوه زائغةً، كثيرون شعروا بأنّ الطّائفة الشيعيّة أصبحت من دون أبٍ روحيّ له مقاربته الفقهيّة التي تتواصل وتتفاعل مع العصر..".

"كان مشهداً حزيناً مترامياً".. هكذا كتبوا..

هناك كانت فلسطين..

كان الأقصى

كانت "قضايا الأمَّة"

كانت "الاستراتيجيّات"

كان مشهداً من مشاهد الصّلاة الكبرى.. السيِّد يؤمّ الجمع كلّه في صلاةٍ روحيّةٍ لا تنتهي..

"شلاَّلٌ من البشر.. بحرٌ من الدّموع.. مستودع حزن"..

الكلّ يودِّع "علاَّمة التنوُّر" "سيِّد الكلام" في رحلة تفاعلٍ أبديّة..

يستريح الجسد المكدود بين يدي الأحبَّة.. صلاة على الجدث الطّاهر في قلب الطوفان.. يهدأ الحشد في هدأة الرّوح..

تطوى صفحة من تاريخ الإسلام والمنطقة والعالم.. لتفتح صفحة جديدة عنوانها ما كتبه زميلي سعيد غريِّب في سجلّ التّعازي: "رحمنا الله، وأطال في عمرك".

ما كنت أحسب قبل دفنك في الثّرى أنّ الكواكب فـي التّراب تغور

ما كنت آمـل قبل نعشك أن أرى رضوى على أيدي الرّجال تسير

وداعاً.. يا أبانا..

يا كلّ نبضةٍ في كياني..

يا كلّ كلمةٍ حلوةٍ خرجت من لساني..

يا كلّ أهلي..

يا كلّ حياتي

يا حبّي الّذي لا يموت..