خطبة الجمعة 14 جمادى الآخرة 1444: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: منهج التعامل مع الأحاديث

- سئلت ذات مرة أننا نجد أحياناً مِن مفسّرينا مَن يفسّرون بعض الآيات على خلاف ما روي بشأنها عن النبي (ص) أو عن الإمام (ع).. كما ونجد بعض الأحاديث التي تُرسَل بين الحين والآخر عبر وسائل التواصل، ونجد بينها تعارضاً.. وأسئلة مِن هذا القبيل.
- هذه الأسئلة في الواقع ليست وليدة العصر، فقد روى الكافي عن سليم بن قيس أنه سأل أمير المؤمنين (ع) أسئلة، ومن بينها: (ورأيتُ في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبي الله [ص] أنتم تخالفونهم فيها، وتزعمون أن ذلك كله باطل، أفترى الناس يكذبون على رسول الله [ص] متعمّدين، ويفسّرون القرآن بآرائهم؟).
- والسؤال بشكل عام: ما هو منهج تعامل العلماء والمحققين مع الأحاديث والروايات في باب التفسير، أو الأخلاق، أو التاريخ، أو غيرها من المجالات؟
- ولماذا يختلفون بشأن كلام النبي (ص) أو الإمام (ع)، والمفترض أن يأخذوا به.
1- لابد من التمييز بين الحديث المروي، وبين كلام النبي أو الإمام.. المروي قد يكون فعلاً كلام أحدهم (ع) وقد لا يكون.. وحيث لا يستطيع المحققون تحصيل الاطمئنان بصدور هذا الكلام عنهم (ع) إلا في موارد محدودة، لذا قد يقتنع بعضهم بأنه من كلامهم، بينما قد لا يرى البعض صحة ذلك.
- والاطمئنان بصدوره عنهم لا يتحقق عادة إلا بالتواتر، وليس أي تواتر، بل التواتر المفيد للاطمئنان. والروايات التي تكون بهذا الوصف قليلة جداً جداً.
2. لو فرضنا صحة صدور الرواية (التفسيرية) عن النبي (ص) أو الإمام (ع)، من يقول أنّه كان بصدد التفسير؟ فقد يكون كلامه من باب التأويل.. بل هو غالباً ما يكون كذلك.
- التفسير يعني بيان المعنى الظاهر للكلام، وظاهر القرآن -غالباً- يكون مفهوماً للعرب، لذا فإن ما يخص الآيات القرآنية من أحاديث يكون عادة من باب التأويل، أي بيان سبب النزول أو بيان كيفية حدوث الأمر في الماضي أو المستقبل، وما إلى ذلك. أو قد يكون استلهاماً من الآية واستيحاء لمعنى غير المعنى الظاهر والحقيقي للكلام.
- في الكافي بالسند عن فضيل بن يسار قال: (قلت لأبي جعفر (ع): قول الله عز وجل في كتابه: [وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً] قال: من حرق أو غرق، قلت: فمن أخرجها من ضلال إلى هدى؟ قال: ذاك تأويلها الأعظم) لأن الآية تتحدث عن إنقاذ النفس البشرية بالمعنى الحقيقي الظاهري للكلمة، وأما إخراجها من الضلال وهدايتها فهو إحياء بالمعنى المجازي، وعبارة عن استيحاء من الآية، ولذا فهو من التأويل لا التفسير.
3. في مجال التفسير، والأحكام الشرعية، والتاريخ، والعقائد، هناك روايات متعارضة، ولذلك في أصول الفقه هناك بحث خاص بالتعارض والمرجّحات بين الروايات المتعارضة، وهذا الأمر أيضاً يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار.
4. الأئمة (ع) حالهم حال سائر مستعملي اللغة، قد يستعملون المجاز، كالاستعارة والتشبيه والكناية، أي أنهم قد لا يقصدون المعنى الظاهر من كلامهم، وهذا قد يؤدي إلى تعدد فهم هذا المعنى، وهناك تنبيه مروي عنهم (ع) بهذا الشأن سأبيّنه في النقطة التالية.
5. قد يقول النبي أو الإمام كلاماً ما، فيحفظه الراوي بشكل خاطئ، أو يفهمه بشكل غير سليم، أو ينقل الكلام ناقصاً، أو حتى بالمعنى لا باللفظ الدقيق، أو يصدر الأمر ضمن ظروف خاصة، ثم يُلغى، فيكون الراوي مطلعاً على الأول منهما دون الثاني.
- في الكافي بالسند عن علي (ع): (فإنّ أمر النبي [ص] مثلُ القرآن، ناسخٌ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، قد كان يكون من رسول الله [ص] الكلام له وجهان: كلام عام وكلام خاص، مثلُ القرآن. وقال الله عز وجل في كتابه: [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا]، فيشتبه على من لم يعرف ولم يدرِ ما عنى الله به ورسولُه [ص]، وليس كل أصحاب رسول الله [ص] كان يسأله عن الشئ فيفهم).
- ولنلاحظ هذا المثال الوارد في الكافي بالسند عن محمد بن مارد قال: (قلت لأبي عبدالله (ع): حديثٌ رُوي لنا أنك قلت: إذا عرفت فاعمل ما شئت؟ فقال: قد قلتُ ذلك. قال: قلتُ وإن زنوا أو سرقوا أو شربوا الخمر؟! فقال لي: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله ما أنصفونا أن نكون أخذنا بالعمل ووُضع عنهم، إنما قلتُ: إذا عرفت فاعمل ما شئت مِن قليل الخير وكثيره فإنه يُقبل منك). لاحظ الفرق بين مراد الإمام وبين ما فهمه السائل نتيجة بتر الكلام، والذي ميّز بين المرادين هي الإضافة القصيرة في النهاية.
6. قد تصدر بعض الكلمات عنهم (ع) أو النصائح أو الأوامر في ظروف خاصة، فنُهمل الظرف ونُعمّم ما جاء في الكلمة... كما في رواية موسى بن بكر قال: (اشْتَكَيْتُ بِالْمَدِينَةِ شَكَاةً ضَعُفْتُ مَعَهَا، فَأَتَيْتُ أَبَا الْحَسَنِ [ع]) الإمام الكاظم (فَقَالَ لِي: أَرَاكَ ضَعِيفاً! قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ لِي: كُلِ الْكَبَابَ. فَأَكَلْتُه فَبَرَأْتُ).
- هذا لا يعني أنه كلما وجدنا شخصاً مصاباً بالضعف نصحناه بأكل الكباب، بحيث نأتي لشخص مصاب بالنقرس وعنده انسداد شرايين وأملاح ويوريا ويشعر بالضعف ونقول له: عليك بالكباب، لأن الإمام (ع) قال ذلك.. فلعل هذه النصيحة تصلح في موسم معين، أو
بلد معين، أو ضمن ظروف صحية خاصة بالشخص وكان الإمام مطلعاً عليها.
- وعن إبراهيم بن هاشم القمي: (قالت امرأةٌ لأبي عبد اللَّه [ع]: إني كنت أقعدُ في نفاسي عشرين يوماً حتى أفتوني بثمانية عشر. فقال [ع]: لم أفتوك بثمانية عشر يوماً؟ فقال رجل: للحديث الذي روى أن النبي [ص] قال لأسماء بنت عميس حين نفَسَت بمحمد بن أبي بكر ذلك. فقال: إن أسماء سألت النبي [ص] وقد أتى بها ثمانية عشر يوماً، ولو سألتْه قبل ذلك لأمرها أنْ تغتسل، وتَفعلَ ما تفعلُه المستحاضة) لأن أكثر النفاس عشرة أيام، فكانت أسماء مخطئة منذ البداية في تجاوزها للعشرة، فأمرها النبي بالاغتسال حينذاك، لا أن المرأة إنما تغتسل من النفاس في اليوم الثامن عشر.
- مما سبق يتّضح أنه لابد من التمييز بين كلام النبي (ص) أو الإمام (ع) وبين ما روي عنهم، فالمروي قد يكون من مصدر ضعيف، أو بمضمون ناقص، أو مُدَّعى عليهم، أو تم التلاعب فيه، أو يكون متعارضاً مع رواية أخرى، وغير ذلك. ومن هنا يأتي دور تحقيق المختصين بهذا الشأن، ومجال التحقيق فيها واسع، وله أدوات متعدّدة، وتتحكّم عدةُ عوامل في الرأي المختار من قبل كل محقِّق، وما لم تبلغ هذه المرويات حد الاطمئنان -على الأقل- بصدورها عن النبي أو الإمام (ع)، فإنها تبقى ظنّية، مما يجعل الباب مفتوحاً لاجتهاد المحققين فيها من خلال الأدوات التي يملكونها في إطار بحوثهم العلمية.. وتفهُّمنا لذلك يساعد في التخفيف من حدّة المواقف تجاه الاجتهادات المتعددة في أبواب المعرفة الدينية كالتفسير والعقيدة والفقه والتاريخ وغيرها.