شرح الخطبة 23 من نهج البلاغة - القسم الثالث: أمور يحتاج الفقير لمعرفتها

ومن خطبة له عليه السلام وتشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد وتأديب الأغنياء بالشفقة:
وَكَذْلِكَ الْمَرْءُ المُسْلِمُ البَرِيءُ مِنَ الْخِيَانَةِ، يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ: إِمَّا دَاعِيَ اللهِ، فَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لَهُ، وَإِمَّا رِزْقَ اللهِ، فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَمَالٍ، وَمَعَهُ دِينُهُ وَحَسَبُهُ. إِنَّ المَالَ وَالْبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا، وَالعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الآخِرَةِ، وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللهُ لأقوَام، فَاحْذَرُوا مِنَ اللهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَاخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَت بَتَعْذِير، وَاعْمَلُوا في غَيْرِ رِيَاء وَلاَ سُمْعَة، فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللهِ يَكِلْهُ اللهُ إِلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ. نَسْأَلُ اللهَ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَمُعَايَشَةَ السُّعَدَاءِ، وَمُرَافَقَةَ الأنبِياءِ.
شرح المفردات:
التعذير: لم يثبُتْ له عُذْر.
شرح الخطبة
من الملفت أن الإمام (ع) وهو يكمل نصيحته للفقراء
بالرضا بقضاء الله، ويتحدث عن المسلم الذي يحفظ
نفسه من فعل ما يذله، فيكون سعيد الحظ على طول
الخط، يعود فيستعمل كلمة الخيانة.. فما علاقة هذه
الكلمة بالفكرة؟ أعتقد أننا لو رجعنا إلى القرآن الكريم
سنجد علياً (ع) قد استلهم فكرته من نص قرآني هو:
... وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ، وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
الأنفال:26-29
ولنلاحظ الربط في الآيات بين الرزق
والنهي عن خيانة الله ورسوله
والأموال والأولاد والتحذير من الفتنة
فإذا أردنا أن نفهم معنى الخيانة في كلامه (ع)
وسبب استعمالها، علينا الرجوع إلى هذه
الآيات وفهم المراد من الخيانة فيها. الخيانة نقض الأمانة أو الميثاق أو العهد
فخيانة الله تكون بنقض العهد والميثاق مع الله
فمن عهودنا مع الله أن نرضى بقضائه وقدره
فلو خالف المسلم الفقير هذا الميثاق، فقد خان
الله في هذه الجزئية.
فمن لا يقع في هذه الخيانة، فإن الله يعده أحد أمرين
إما عطاء أخروي جزيل بعد الموت
وإما مال وعيال مع الحفاظ على الدين والسمعة: إِمَّا دَاعِيَ اللهِ، فَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لَهُ، وَإِمَّا رِزْقَ اللهِ، فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَمَالٍ، وَمَعَهُ دِينُهُ وَحَسَبُهُ.
ثم يحذّر الإمام من فتنة المال والأبناء
بحيث تلهي الإنسان عن الله وعن الاستعداد
للآخرة والإعداد لها نتيجة حبه الشديد لهذين
العنوانين وانشغاله بهما
فلا تلهوا عن العمل الصالح لأنه زاد الآخرة، ويحذّر من مغبة الغفلة عما حذر الله منه
في القرآن الكريم، وعدم التهاون في أوامره ونواهيه
ومن بين ذلك ما له علاقة بالمال والأبناء
وكيفية التعامل معهما من قبيل عدم الانشغال بهما
عن الآخرة، أو أن يرضي أبناءه على حساب الآخرة
أو أن يبخل في الإنفاق في سبيل الله وغير ذلك: فَاحْذَرُوا مِنَ اللهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَاخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَت بَتَعْذِير.
وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
ولا يكفي أن يلتزم المؤمن بالعمل الصالح فحسب
بل لابد من تخليص هذا العمل من الرياء والسمعة
كي يكون ذا قيمة عند الله في الآخرة وإلا فإنه سيواجه
مصيراً يندم عليه حين يقال له خذ أجرك في الآخرة ممن
عملت لأجله.
وَاعْمَلُوا في غَيْرِ رِيَاءٍ وَلاَ سُمْعَة، فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللهِ يَكِلْهُ اللهُ إِلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ.
ويختم الإمام (ع) هذه الفقرة بالدعاء لخير
المصير الأخروي: نَسْأَلُ اللهَ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَمُعَايَشَةَ السُّعَدَاءِ، وَمُرَافَقَةَ الأنبِياءِ.