تلاوة وتفسير الآيات 40-46 من سورة فصلت- القسم الثاني - سنة الله في الرسالات

مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ 43
- بعد الكلام عن موقف المشركين من الرسالة وخاصة القرآن الكريم، كما جاء في:
1. الآيتين 4-5: (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ، وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ).
2. الإشارة في الآية 6 إلى رفضهم نبوة بشرية: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ).
3. الآية 26: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).
4. الآية 41: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ).
جاءت هذه الآية لتذكّر بأن هذه هي سنّة الأنبياء مع أممهم، وقد سبق بيان جانب من ذلك في:
1. الآيتين 13، 14: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ).
2. الآية 15: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ... وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ).
3. الآية 17: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى).
- والموارد الخاصة بذلك في القرآن الكريم كثيرة، وهي كما تطلب من النبي (ص) الصبر، تردّ على إشكال المشكلين ممّن آمن بالرسالة استغراباً منهم من الوضع القائم.
- واقتران الفعل بــــ (قد) لتحقيق أنه قد قيل للرسل مثل ما قال المشركون للرسول (ص)، وأيضاً لزوم الصبر على قولهم.
- (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ) لمن آمن بالرسالة وأثار الإشكال السابق، أو حتى للرسول بالمعنى الوارد في الآيتين 1-2 من سورة الفتح [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ] (وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ) للمعاندين المكابرين الذين تمرّدوا على الله وكفروا بآياته وآذوا النبي (ص) والمستضعفين من المؤمنين.
- وصف العقاب بكلمة (أَلِيمٍ) دون وصف آخر، للاشارة إلى أنه مناسب لما عوقبوا لأجله.
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
- رد على إشكال -متكلّف- دائم الإثارة، بأن الكتب السماوية السابقة لم تنزل بالعربية، ولربما أيضاً أن لغة الحضارة آنذاك لم تكن العربية بل اليونانية/اللاتينية والفارسية، فمن المفترض بالقرآن إن كان من عند الله سبحانه أن ينزل بواحدة منها.
- ومفارد الرد: فلنفترض أن الله سبحانه أنزل القرآن بلغة أخرى، حينذاك سيقولون (لَوْلاَ فُصِّلَتْ) بُيِّنَت ووُضِّحَت (آيَاتُهُ أأعجمِيٌّ وعَرَبِيٌّ) أي لم نفهم من الكلام شيئاً، لماذا لم تُبيّن مضامينه بلسان نفهمه ونحن عرب؟ أيُلقى لفظ أعجمي إلى مخاطَب عربي؟ وكيف يخاطِبنا بكلام أعجمي وهو عربي؟
- وقد طرح القرآن الكريم فرضاً معكوساً في الآيتين 198-199 من سورة الشعراء: (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) أي لو نزلناه بلغة العرب على بعض الأعجمين فقرأه عليهم بالعربية، لما آمنوا به، لعدم فهمهم مضمونه، وعدم تأثرهم بما فيه من خصوصيات لغوية.
- (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ) وحقيقة الشفاء: زوال المرض، ففي البين استعارة:
1. لبيان ما فيه من علاج من الابتلاء بالأفكار الباطلة والأخلاق المنكرة والأفعال المستقبحة.
2. ولبيان أنهم بعدم قبولهم القرآن والاهتداء به مرضى بحاجة إلى شفاء مما يعانون منه.
- (وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) أي وفي المقابل، فإن الذين لا يؤمنون فلا تتخلل آياته نفوسَهم، لأنهم كمن في آذانهم وقر يمنع دون سماعه، وعمى يمنع دون رؤية آياته (حالتان مرَضيتان في مقابل دور القرآن في الهداية والشفاء).
- قوله (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) للدلالة على أن عنادهم كان سبباً لمزيد من ضلالهم فكان القرآن سَبَبَ سببٍ، كما في قوله (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة:125].
- (أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) تشبيه لإعراضهم عن الدعوة عند سماعها بحال من يُنادَى من مكان بعيد لا يَبلغُ إليه في مثله صوت المنادي.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ 45
- تتضمن هذه الآية نموذجاً من نماذج مواقف الأمم من الرسل والرسالات ولكتب السماوية، ولربما هو أسوأ من النموذج الذي يواجهه النبي (ص)، حيث اختلف الذين دعاهم في ذلك، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر.
- بل إن هذا النموذج أسوأ من النموذج الذي يواجهه النبي (ص) لأنه يتضمن اختلافين:
1. اختلاف فيه بين مؤمن به وكافر (فرعون وقومه وبعض بني إسرائيل مثلُ قارون).
2. اختلاف بين المؤمنين به اختلافاً عطلوا به بعض أحكامه.
- (وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ) رد على إشكال طرحه المؤمنون بالرسالة، ومفاده: لماذا لا يستأصل الله المشركين بعد كل هذا؟ أو لماذا لم يتحقق النصر إلى الآن؟ وجاء الجواب بأن لله حكمة في ذلك، وقد أخذ الله على نفسه:
1. أن لا يستأصل هؤلاء القوم (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:33]
2. وأن الأصل في أمور في هذه الحياة أن تسير وفق القوانين، وأنهم سيواجهون عقابهم في الآخرة: (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) [الأعراف:24].
- (وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ) هناك احتمالان:
1. خاص بالمشركين الشاكين في البعث، والشاكين في أن الله ينصر رسوله والمؤمنين.
2. أي في شك مريب من كتاب موسى، لا أن موقفهم كان مبيناً على شيء سليم ومنطقي.
مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ ٤٦
- إن بعد هذا الأجل المسمى مصير محتوم يتمثّل في الآتي: (مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا) والمسألة لا تمسّ الله سبحانه بضرر، ولا تنطلق من اتصاف الله بالظلم تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
- صيغة (ظلاَّم) المقتضية المبالغة في الظلم للدلالة على تمام عدل الله تعالى.