خطبة الجمعة 7 جمادى الآخرة 1444: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: أم تشتكي: ابنتي خلعت حجابها

- تحدثتُ في الأسبوع الماضي عن مسبّبات النزعة الفردانية التي تدعو إليها الليبرالية الحديثة وتُعزّزها، ومدى خطورة هذه النزعة، وبعضٍ من آثارها.
- ومن بين هذه الآثار التي ذكرتُها، تَبنّي شِعار: (عِش كما تريد، لا كما يجب عليك)، هذا الشعار الذي يمثّل السماح بفتح الباب لإعلان التمرّد على القيَم والتشريعات والآداب.
- فإن شئت أن لا تلتزم بهذا الواجب الشرعي، فهذا شأنك.. كيف؟ وبأي مبرر؟ لأنّ النزعة الفردانية تتبنّى أن (تعيش كما تريد، لا كما يجب عليك).
- وإن شئت أن لا تلتزم بآداب المعاشرة والمعاملة مع الوالدين أو الأقرباء أو الكبار في السن، فهذا شأنك.. فمن حقك أن (تعيش كما تريد، لا كما يجب عليك).
- وعلى هذا فقس سائر الأمثلة.
- هذا الأمر انسحب إلى مسألة اللباس الشرعي للمرأة المسلمة (الحجاب)، سواء في التخلّي عنه مطلقاً، أو في تحويره وإفراغه من محتواه، بحيث توصف من ترتديه بعدم السفور، ولكنّ الواقع أن الفارق بين هذه النوعية من اللباس وبين السفور يكاد لا يُذكر.
- بالطبع، أنا كرّرت أكثر من مرّة أنني لا أفضّل استعمال كلمة (حجاب)، فهو استعمال خاطئ لمصطلح قرآني يخصّ نساء النبي (ص)، ويقتضي عدم التعامل مع الرجال الأجانب إلا من وراء ستار أو باب أو جدار أو ما شابه، ومعلوم أن هذا ليس المراد من اللباس الشرعي للمرأة في الإسلام، ولكن هكذا درج استعمال هذا المصطلح للدلالة عليه.
- صحيح أن بعضاً ممن خلعن اللباس الشرعي -أو امتنعن عنه- تحجَّجْن بعدم وجود دليل قرآني على ذلك، وقد بيّنت في خطبة سابقة -وبالأدلة القرآنية- خطأ هذا الادّعاء،
إلا أن قسماً آخر منهن إنما تركن اللباس الشرعي تحت شعار (عِش كما تريد، لا كما يجب عليك) الذي رسّخَتْه النزعة الفردانية.
- والسؤال المهم: ما العمل الآن؟ كيف لنا -كمتديّنين وملتزمين بأمر الله ومسئولين عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- أن نصحّح هذا الخلل الذي بات يتّسع مدىً؟
- يمكن تصوّر العمل على مستويين رئيسين، الأول يتمثّل في التعامل مع المكلَّفات مِمَّن تخلَّين عن اللباس الشرعي أو يرفضن ارتداءه... والثاني في تربية الفتيات الصغار على الرغبة الذاتية في ارتداء هذا اللباس والإقبال عليه بشغف، ووقايتهن من نبذه مستقبلاً.
- وبرأيي الشخصي -ولربما الأمر بحاجة إلى جلسة مناقشة وعصف ذهني- أن الجهد الأكبر ينبغي أن ينصبّ على المستوى الثاني، وذلك بلحاظ محدودية الطاقات العاملة، وضعف الإقبال على العمل التطوعي، ولأنّ بذلَ الجهد في المستوى الأول سيستنزف الكثير من الطاقات بمردود قليل، ولعوامل أخرى ليس هذا هو المجال الأنسب لذكرها.
- لا أقصد بما سبق أن نهمل العمل في إطار المستوى الأول، ولكن أن تكون أولوية العمل وتركيزه منصباً على الفتيات دون سن التكليف، وضمن استراتيجية واضحة.
- خاصة وأن إقبال الفتاة المكلّفة على التزام اللباس الشرعي لا ينزل بالبراشوت، بل يحتاج إلى تهيئة وتربية وتحبيب وتشجيع يعود إلى مرحلة ما قبل سن التكليف.
- ولطالما ذكرت لبعض الأمهات اللائي يشتكين من هذه المسألة أن من الخطأ أن ننتظر كل هذه السنوات دون خطوات إجرائية مشجعة، حتى إذا صارت الفتاة في سن التكليف، أو في سن المراهقة، أو ما بعد ذلك، وجدنا لديهن صعوبة أو امتناعاً عن ذلك.
- ومن المهم هنا أن نأخذ بعين الاعتبار ما يلي:
1. ضرورة معالجة المفاهيم الكامنة وراء هذا الخلل ومسبباته.. أي أننا إذا أردنا أن نحفّز برامج التشجيع على ارتداء اللباس الشرعي دون معالجة النزعة الفردانية مثلاً، فسنكون كمن يعالج آثار مرضيّة تظهر على الجلد، دون المعالجة أو الوقاية من مسببات هذه الآثار والتي قد تكون لوجود خلل في الكبد، أو في نوعية الطعام المتناول... من هنا، من الضروري إدراك ما وراء الخلل، ومعالجته بشكل سليم.
- النزعة الفردانية، التركيز على الماديات، إغفال الآخرة في ضمن عملية بناء المستقبل، ضعف حضور الله في وعي الفرد، أولوياتنا في الحياة، وعناوين جوهرية من هذا القبيل، بحاجة إلى معالجة في سن مبكرة، بهدف رفع الموانع عن الإقبال على اللباس الشرعي.
2. منع أو تخفيف أو ضبط تعامل الفتيات الصغار مع المحفِّزات على السفور.
- طفلة في مرحلة تكوين وعيها للأمور المختلفة، ونفتح لها الباب على مصراعيه من خلال الأجهزة اللوحية والهاتف النقال وغير ذلك كي تتعلّق بالفاشنستات والممثلات وعارضات الأزياء وأمثالهن، بحيث يتحوّلن إلى نماذج ترغَب في تقليدها.. ماذا نتوقع من مثل هذه الطفلة بعد ذلك في موقفها من اللباس الشرعي؟
- من هنّ المثُل العليا اللائي جعلناهن مصدر إلهام للفتاة الصغيرة؟ السيدة الزهراء (ع)؟ السيدة مريم (ع)؟ السيدة زينب الكبرى؟ أم فلانة الفاشنيستا، وعلانة الممثلة؟ وكيف نحقق هذا الاستلهام عند الفتيات؟
3. تحقيق أجواء الصداقة والصحبة الصالحة.. الصاحب ساحب.. تسحبها إلى عالم الاعتزاز باللباس الشرعي والحرص عليه.. أو إلى العالم الآخر البعيد عن ذلك.
- ليس بالضرورة أن تكون هذه الصديقة مؤثّرة بالكلام، بل يكفي أن تؤثّر عليها بمظهرها الخارجي، سلباً أو إيجاباً.
4. ومثل الأصدقاء، تبرز أهمية الأجواء الاجتماعية التي توفّرها الأسرة للفتاة في تحفيز أو إضعاف هذا البُعد في حياتها.
- عندما لا تمانع الأسرة أن تجعل البنت المراهقة في أجواء اختلاط مع شباب مراهقين ضمن أجواء العمل التطوعي مثلاً في الفترة الصيفية، أو في صفوف المدارس الخاصة المختلطة، وما شابه ذلك، فمن المحتمل جداً أن ينعكس ذلك سلباً على نوعية لباسها، وتحفيز رغبتها في السفور على حساب اللباس الشرعي.
- دعونا نتذكّر دائماً أن أموراً من قبيل التزامِ الأبناء بالصلاة، وتديّنِهم، وحضورِهم المساجد، وتعلّقِهم بالقرآن الكريم، وأمثال ذلك من عناوين، من الصعب أن تُفرَض من الأعلى فجأة عند بلوغ سن التكليف أو بعد ذلك بسنوات، ثم نتوقّع منهم التمسّك بذلك على طول الخط.. ومسألةُ قبولِ وتمسّكِ بناتِنا باللباسِ الشرعي لا يختلف عن ذلك، ولذا من المفترض بأولياء الأمور اتخاذ خطوات سبّاقة -منذ طفولة بناتهم- لجعل اللباس الشرعي جزءً لا يتجزّأ مِن هويتهن.. وبلحاظِ كلِّ التحدياتِ القائمةِ اليوم على خلاف ذلك، فإننا بحاجة إلى تحديد نقاطٍ عملية ترسمُ معالمَ الطريقِ للأُسَرِ في كيفية تهيئة الفتيات الصغار للإقبال على اللباس الشرعي بشغف.. ومثل هذا المشروع بحاجة إلى عصف ذهنيّ، وتظافر جهودٍ مشتركة، لنخرج في نهاية الطريق بدليلٍ عمليّ مدوَّن يُعين الأُسرَ في هذا الإطار.. نسأل الله تعالى أن يرى هذا المشروعُ النورَ في القريب العاجل.