شرح نهج البلاغة - الخطبة 23- القسم الثاني-الرضا بقضاء الله

ومن خطبة له عليه السلام وتشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد وتأديب الأغنياء بالشفقة:
أمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ كَقَطَرَاتِ الْمَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا قُسِمَ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ لِأَخِيهِ غَفِيرَةً في أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ فَلاَ تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً، فَإِنَّ المَرْءَ الْمُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ، وَيُغْرَى بهَا لِئَامُ النَّاسِ، كانَ كَالْفَالِجِ اليَاسِرِ الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ الْمَغْنَمَ، وَيُرْفَعُ بَهَا عَنْهُ المَغْرَمُ.
شرح المفردات:
غفيرة: زيادة وكثرة. تقول: جماهير غفيرة، أي كثيرة.
الفالج: الظافر.
قالت العقيلة زينب لابن زياد: (مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلاً، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ، فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ الله بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِـمَنِ الْفَلْجُ يَوْمَئِذٍ...).
الياسر: الذي يلعب بقِداح المسير أي: المقامر.
القِداح: جمع قِدْح. والقِدْحُ : قطعةٌ من الخشب تُعرَّض قليلاً وتُسَوَّى، وتكون في طول الفِتْر أو دونَه، والفِتْر: ما بين طَرَفِ الإبهامِ وطرَفِ السبَّابةِ إذا فتحْتَهُما.وتُخَطُّ فيه حزوزٌ تُميِّزُ كل قِدْح بعددٍ من الحزوز، وكان يستعمل في المَيْسِر، وقد يكتب على القِدح: لا أو نعم، أو يُغْفل لِيُقْرَعَ به ويُستقْسَم.

شرح الخطبة
وجود التمايز بين الأفراد أمر تفرضه المصلحة العامة للبشرية
وإلى هذا المعنى تشير الآية التالية:
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ.
الزخرف 32

ومن المفترض بالإنسان الذي يؤمن يحكمته الله وعدله
ورحمته بعنايته بخلقه، أن يرضى بما قسم الله له
لا بمعنى عدم امتلاك الطموح، بل أن يرضى بقضاء
الله في الأمور التي لا يمكن تغييرها،
من قبيل موروثاته الجينية، والزمن الذي ولد فيه، والمكان
وغير ذلك، ويرضى بقضاء الله أيضاً في الأمور التي يمكن تغييرها،
ولكنها لم تتحقق أو تحققت بمستوى أدنى مما يريد
ولكن بعد أن يبذل جهده في هذا المجال.
يعالج الإمام (ع) في هذا المقطع مشكلة نفسية
قد يعاني منها الإنسان عندما يقارن بين ما عند الآخرين
وبين ما عنده، على مستوى شخصي كالقدرات أو المنصب،
أو الذرية، أو المال، أو غير ذلك.

فمثل هذه المقارنات من شأنها أن تدفع إلى الحسد
أو الحقد على الآخر أو عدم الرضا بقضاء الله وقدره
بل وحتى القعود عن العمل
ولذا يقول:
فَإِنَّ الْأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ كَقَطَرَاتِ الْمَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا قُسِمَ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ،
فهل تتساوى حبات المطر من حيث الحجم وسرعة النزول
وكثافته ومدته في الأوقات المختلفة، والأمكنة المتعددة؟
بالطبع لا.. هكذا هو الأمر بالنسبة إلى أرزاق الله لعباده
حيث تتفاوت الأرزاق بحسب الإرادة الإلهية، وما دامت ليست خارجة
عن إرادته سبحانه، فالمفروض أن يرضى العبد بذلك.
فإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ لِأَخِيهِ غَفِيرَةً في أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ فَلاَ تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً،
فالوضع المفترض من الإنسان كي يريح نفسه
ولا يقع في المحظورات كالحسد والحقد، أن
يتعامل مع هذه التمايزات كالتالي:
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى. طه 131

فإن مدّ الإنسان عينه إلى ما عند الآخر
وأثّر ذلك فيه نفسياً، وبدأ يفكّر في الأمر،
فقد وضع نفسه في موضع الاختبار
وقد ينجح وقد يفشل.
فَإِنَّ المَرْءَ الْمُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ، وَيُغْرَى بهَا لِئَامُ النَّاسِ، كانَ كَالْفَالِجِ اليَاسِرِ
من المفترض أن لا تكون هذه التمايزات المادية
هي الأهم بالنسبة إلى المسلم، وأن لا يكون مدّ عينيه
إلى مثل هذه الأمور... لأن المفترض أن يكون الأهم
بالنسبة إليه هو عدم ارتكاب المعصية أو الأمر الدنئ
الذي إذا انكشف أنه قد فعله، فسيشعر بالعار والذل
وسيكون مادة دسمة للئام الناس الذين يتصيّدون على
الآخرين زلاتِهم.
ومن ينجح أن لا يكون كذلك، فإنه سيكون بمثابة ذلك الذي
يتنافس مع الآخرين في الميسر وهو سعيد الحظ دائماً
الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ، تُوجِبُ لَهُ الْمَغْنَمَ، وَيُرْفَعُ بَهَا عَنْهُ المَغْرَمُ.
فمثل هذا المتسابق المحظوظ يكون متحمساً لسحب القِدْح
لأنه يدرك أنه سيكون هو الفائز، فينال الجائزة ولن يتحمل
عبء الخسارة... وعليه، فإن من يتجنب تلك الأمور الدنيئة
سيكون على أحرّ من الجمر لنيل جائزته في سباق الحياة
ولن يكون المطلوب منه أكثر من الانتظار لتُعلن النتيجة لصالحه.