خطبة الجمعة 29 جمادى الأولى 1444: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: النزعة الفردانية

- فطرة الانتماء الجماعي متجذّرة في الإنسان، بل قد تتطرّف عند البعض بحيث تتحوّل إلى حالة من التعصّب الأعمى الذي يجعل مصلحة الجماعة مقدّمة على مصلحة الفرد ولو في الباطل والحرام، وهو ما نشهده -على سبيل المثال لا الحصر- في الحميّة الجاهلية عند العرب، إذ يقول الشاعر الجاهلي دُريد بن الصّمّة:
وَهَل أَنا إِلّا مِن غَزِيَّةَ، إِنْ غَوَتْ غَوَيتُ، وَإِن تَرشُدْ غَزيَّةُ أَرشَدِ
- في مقابل هذه الصورة، هناك (النزعة الفردانية) المتمثّلة في الانكفاء على الذات وتقديم المصالح الشخصية، وتنبثق منها أحياناً صورة شديدة التطرف، وهي المعروفة بالنرجسية.
- الفردانية تعمل على إعلاء قيمة الفرد المعنوية على حساب أية جماعة، سواء كانت الأسرة، أو الأقرباء، أو الأصدقاء، أو المجتمع الذي يعيش فيه الفرد، أو المجتمع الإيماني الذي ينتمي إليه، وغير ذلك.. بحيث تكون أهدافُه ورغباتُه وشهواتُه ونزواتُه، مقدّمة -على الدوام- على أية مصلحة أخرى.
- الفردانية ليست أمراً مستحدثاً، ولكن لم تكن واسعة الانتشار بالصورة التي نشهدها اليوم، ولا يتمّ ترسيخها ووضعها في قالب فلسفي كما يحصل الآن.
- ولعل من غير المبالغ فيه أن نقول أنّ البشرية لم تبلغ -في تاريخها الممتد- هذا المستوى من انتشار وتمكّن هذه النزعة.
- يمكن تفهّم النزعة الفردانية في الظروف الاستثنائية والمصيرية شديدة القساوة، كما ذكرت الآيات الشريفة في وصف الآخرة: (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس:33-37].
- ولكن أن تكون هذه النزعة هي الحاكمة على قرارات وسلوكيات الأفراد في الظروف الطبيعية، فهذا شيء مخالف للفطرة الإنسانية، والأخلاق، والقيم الإنسانية.
- من الطبيعي أن يعتني الفرد بنفسه، وأن يبحث عن تلبية احتياجاته، وتحقيق طموحاته الشخصية، ولكن من غير الطبيعي أن يُلغي الآخر -أو (الجار) كما أسمته الزهراء (ع)- من حسابات قراراته واهتماماته وأولوياته.
- ولعل من أهم الأسباب التي دفعت الغربيين -بشكل واسع- إلى تبنّي النزعة الفردانية هي ردّة الفعل تجاه الحربين العالميتين اللتين مثّلتا صدمة كبيرة جداً للإنسان الغربي، ووجد فيهما تسخيراً للأفراد من أجل (مصلحة) قومية، أو شوفينية، أو حزبية، أو استجابةً لمطامع حاكم مهووس.
- ثم تمادت الرغبة في التحرّر من الروابط الجماعية؛ لتنتقل من عدم الاهتمام بالقضايا المجتمعية الكبرى إلى التخلّي عن الروابط الأسرية والتهرّب منها، ومن ثَم ظَهر العزوف الكبير عن الزواج، وعدم الرغبة في الإنجاب، وعدم العناية بكبار السن، وغير ذلك.
- ومع موجة (العولمة)، وانفتاح العالم على بعضه البعض من خلال الثورة التكنولوجية في تأمين خدمة التواصل فائق السرعة الذي نشهده اليوم، غزت النزعة الفردانية الغربية -بصورة أو بأخرى- مجتمعات ثانية كانت على مدى قرون متمادية قد تبنّت بقوّة إعلاء صورة المصلحة العامة، وروح الإيثار والتضحية، وتقديم الجار على الدار.
- دورات تدريبية تحت عنوان (التنمية البشرية) تعمل على ترسيخ مفاهيم (الإيمان بالذات) و(تحقيق الذات).. مؤلفات.. إنتاج إعلامي واسع.. نشاط استهلاكي محموم.. تقديم نماذج (تافهة) بعنوان (فاشينيستا) و(فاشينيست).. وأمثال ذلك، كلها دفعت وما زالت تدفع -وبقوة- نحو تعزيز النزعة الفردانية.
- وهذه النزعة الفردانية -التي تدعو إليها الليبرالية الحديثة وتعززها- فرّخت وأفرزت بدورها شعار: (عِش كما تريد، لا كما يجب عليك).
- الإفراز الآخر لهذه النزعة يتمثل في القول بـ (نسبية الحقيقة)، ولذا لا يحق لأحد تخطئة غيره؛ لتذوب بذلك فكرة الانتماء لأية مجموعة (دينية، اجتماعية، سياسية، ثقافية)، فأنا مثلاً من حقي أن أختار من هذا الدين شيء، ومن ذلك الدين شيء، ومن الثالث شيء.
- ومن حق الفرد أنْ لا يشعر بالانتماء لوطن، أو قومية، أو أي كيان آخر، صغيراً كان أم كبيراً، فالأهم هو الانكباب على الذات وانفصاله عن المجموع.. أي الدار، ثم الدار، ثم
الدار، ولا حقّ ولا نصيب للجار (الآخر، فرداً كان أم مجموعة).
- عالم الاجتماع الفرنسي المعاصر (جيل ليبوفتسكي) Gilles Lipovetsky اهتمّ بالمسائل والقضايا الاجتماعية، وبدراسة النزعة الفردية، ونزعات الموضة والاستهلاك المفرط في المجتمع الرأسمالي. في سنة 1983 أصدر كتاباً تُرجم بعد 35 سنة إلى العربية بعنوان (عصر الفراغ: الفردانية وتحوّلات ما بعد الحداثة).
- يتساءل في كتابه هذا، وهو يصف التفكك الاجتماعي والفكري الناشئ عن تحكيم النزعة الفردانية: (مَن لا يزال يؤمن بالعمل حينما نعرف نسب الغياب والدوران الوظيفي، وعندما نرى تزايد الحماسة للعطل، وعطل نهاية الأسبوع، وأنشطة الترفيه، وحينما تُصبح الإحالة على التقاعد تطلُّعاً جماهيريّاً، بل مثلاً أعلى؟ ومَن لا يزال يؤمن بالأسرة عندما نرى تزايدَ نِسب الطلاق، وإرسالَ المسنّين لدار العجزة، وعندما يرغب الآباءُ في البقاء شباباً، ويلجؤون إلى المختصّين النفسيين، وعندما تصبح الزيجات [حرّة]، وحينما يُصبح الإجهاضُ ومَنع الحملِ والتعقيمُ أموراً مُشرعنةً بقوة القانون؟).
- أعتقد أننا من خلال الوصف السابق الذي قدّمه الفيلسوف الفرنسي "جيل ليبوفتسكي" أمام صورة حاضرة في مجتمعنا بقوة.. صورة نتعامل مع مفرداتها كلَّ يوم، وتزداد وضوحاً بمرور الزمان، لتعكسَ رؤيةً على النقيض تماماً من تلك التي لخّصتها الزهراء (ع) حين سألها ولدها المجتبى عن سرّ دعائها للغير لا لنفسها، فقالت له: يا بني، الجار ثم الدار.. صورةٌ هي نَتاجُ تعزيزِ النزعةِ الفردانية، وتعودُ بدورِها لتُرسّخ هذه الفردانية أكثر وأكثر، وتجعل من الأنا إلهاً ومعبوداً غير معلَن، بما يتطلّب معالجاتٍ على
أكثرَ من صعيد قبل أن نخسرَ كلَّ شيء. ولنا بهذا الصدد وقفةٌ أخرى بإذن الله تعالى.