خطبة الجمعة 29 جمادى الأولى 1444: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: يا بُنيّ.. الجار ثم الدار

- روى الشيخ الصدوق في علل الشرائع بالسند عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن فاطمة الصغرى، عن الحسين بن علي، عن أخيه الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال: (رأيتُ أمي فاطمة عليها السلام قامت في محرابها ليلة جمعتها، فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها يا أماه لم لا تدعون لنفسك كما تدعون لغيرك؟ فقالت: يا بني، الجار ثم الدار).
- هكذا كانت الزهراء (ع) تفكّر بالمؤمنين والمؤمنات، تلك مريضة، وهذا مبتلى بالفقر، وآخر يعاني من بعض المصاعب، وتلك لديها مشكلة كبيرة في حياتها الزوجية، وأخرى ترمّلت، وأيتام يعانون فقدان آبائهم... تستحضر كلّ ذلك وتدعو الله لهم بما يغيّر أوضاعَهم إلى الأفضل، وليتجاوزا مِحنَهم في أقرب وقت، وليمنحهم الله الصبر والأجر.
- إجابة مولاتنا الزهراء (ع) في الرواية السابقة وإن جاءت في شكل كلمات قليلة وبسيطة في ذاتها، ولكنها عميقة في دلالتها، لأنها تلخّص موقف الإسلام من قضية الأنا والآخر.
- إبراهيم بن هاشم يروي -كما نقل الكليني عن ابنه علي- قال: (رأيت عبد الله بن جندب في الموقف، فلم أرَ موقفاً كان أحسن من موقفه. ما زال ماداً يديه إلى السماء ودموعُه تسيل على خدّيه حتى تبلغَ الأرض، فلما صدر الناس قلت له: يا أبا محمد، ما رأيتُ موقفاً قطّ أحسن من موقفك! قال: والله ما دعوت إلا لإخواني، وذلك أن أبا الحسن موسى[ع] أخبرني أنّ مَن دعا لأخيه بظهر الغيب نودي من العرش: ولك مائة ألف ضعف، فكرهتُ أن أدع مائة ألف مضمونة لواحدة لا أدري تُستجاب أم لا).
- هكذا ربّى أهلُ بيت النبوة أصحابَهم، لأنها هذه هي مدرسة الإسلام، مدرسة النبي (ص)
وأهل بيته (ع)، سواء على مستوى الإيثار المادي أو المعنوي.
- بالطبع، لم يكن هذا هو الموقف الوحيد للزهراء (ع) الذي تُشرق من خلاله هذه الروحية الإنسانية الرائعة، فنستذكر موقف الإطعام للمسكين واليتيم والسير، وغير ذلك من المواقف، بما يدلّ على أن المسألة ليست مسألة طارئة، أو تحت تأثير ظرف عاطفي ما، بل هي صفة متجذّرة في شخصيتها، وهي جزء من أسرار مقاماتها الرفيعة التي جعلتها من الخمسة من أهل الكساء حيث يقول تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) [الأحزاب:33].
- والحديث عن هذا الجانب في شخصية الزهراء (ع) يجرّنا إلى الحديث عن واحدة من مفردات صراع الحضارات الذي نشهده في هذا العصر، فهذا الصراع لا ينحصر في صورة الحرب، والبندقية، والمدفع، واحتلال الأرض، ونهب الخيرات، والإخضاع السياسي، وما إلى ذلك، بل يشمل الصراعَ الثقافيّ أيضاً، والقِيَمي الأخلاقي.
- هذه المفردة الداخلة في صراع الحضارات لها علاقة بأولوية الدار أو الجار -بحسب تعبير الزهراء (ع)- حيث الدار كناية عن الأنا، بينما الجار كناية عن الآخر.
- ولنا في الخطبة الثانية وقفة لعرض التضاد الحاد بين الرؤية التي لخّصتها الزهراء (ع) بقولها (الجار ثم الدار)، وبين النزعة الفردانية التي تعمل على تعزيزها الليبرالية المعاصرة.