شرح نهج البلاغة - الخطبة 21- القسم الأول


قال الشريف الرضي:
(ومن خطبة له عليه السلام وهي كلمة جامعة للعظة والحكمة)
فإِنَّ الغَايَةَ أَمَامَكُمْ، وَإِنَّ وَرَاءَكُمُ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ، تَخَفَّفُوا تَلْحَقوا، فَإنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ.
قال السيد الشريف:
(إنّ هذا الكلام لو وُزن بعد كلام الله سبحانه وكلام رسوله [ص] بكل كلام لمال به راجحاً،
وبرّز عليه سابقاً. فأما قوله عليه السلام: «تخفّفوا تلحقوا»، فما سُمع كلام أقل منه مسموعاً ولا أكثر منه محصولاً، وما أبعد غورها من كلمة! وأنقع نطفتها من حكمة! وقد نبَّهْنا في كتاب «الخصائص» على عظم قدرها وشرف جوهرها).
((ملاحظة: أنْقَع: من قولهم: «الماء ناقع ونقيع» أي ناجع، أي إطفاء العطش. النُّطْفة: الماء الصافي.
والكتاب هو خصائص الأئمة للشريف الرضى)).
عند تتبّع مصدر هذه الخطبة، نلاحظ أن في نهج البلاغة نصاً آخر قريب جداً من هذا المضمون، فقد يكون دليلاً عليه فمن المحتمل أن هذه الكلمة جزء من الخطبة 167 من قسم الخطب والكلمات من نهج البلاغة، وجاءت معنونة كالتالي:
ومن خطبة له عليه السلام في أوّل خلافته:
(إنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ كِتَاباً هَادِياً بَيَّنَ فِيهِ الْخَيْرَ وَالْشَّرَّ؛ فَخُذُوا نَهْجَ الْخَيْرِ تَهْتَدُوا، وَاصْدِفُوا عَنْ سَمْتِ الشَّرِّ تَقْصِدُوا. الْفَرَائِضَ الْفَرائِضَ! أَدُّوهَا إلَى اللهِ تُؤَدِّكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ. إنَّ اللهَ تَعالَى حَرَّمَ حَرَاماً غَيْرَ مَجْهُولٍ، وَأَحَلَّ حَلاَلاً غَيْرَ مَدْخُولٍ، وَفَضَّلَ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْحُرَمِ كُلِّهَا، وَشَدَّ بِالْإَخْلاَصِ وَالتَّوحِيدِ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَاقِدِهَا، فَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَلاَ يَحِلُّ أَذَى الْمُسْلِمِ إِلاَّ بَمَا يَجِبُ. بَادِرُوا أَمْرَ الْعَامَّةِ وَخَاصَّةَ أَحَدِكُمْ وَهُوَ الْمَوْتُ، فَإنَّ النَّاسَ أَمَامَكُمْ، وَإِنَّ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ مِنْ خَلْفِكُمْ. تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا، فَإنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ. اتَّقُوا اللهَ فِي عِبَادِهِ وَبِلاَدِهِ، فَإنَّكُمْ مَسْؤُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهَائِمِ، أَطِيعُوا اللهَ وَلاَ تَعْصُوهُ، وَإِذَا رَأَيْتُمُ الْخَيْرَ فَخُذُوا بِهِ، وَإذَا رَأَيْتُمُ الشَّرَّ فَأَعْرِضُوا عَنْهُ).
وقد ذكر هذه الخطبة كلٌّ من الطبري وابن الأثير وغيرهما.
قال الطبري في تاريخه:
(وبويع علي يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة- والناس يحسبون من يوم قُتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فأول خطبة خطبها علي حين استُخلف- فِيمَا كتب بِهِ إليّ السَّرِيّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن سُلَيْمَان بن أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن- حمد اللَّه وأثنَى عَلَيْهِ، فَقَالَ: إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أنزل كتاباً هادياً بيّن فِيهِ الخير والشر)
ونقل كلاماً قريباً جداً مما جاء في الخطبة 167 من نهج البلاغة، ثم أردف ذلك بأبيات شعرية قالها مَن جاء مِن مصر للثورة على الخليفة عثمان، وردّ الإمام عليهم، ثم نقل سيف كلاماً على لسان أتباع عبدالله بن سبأ وغير ذلك من تفاصيل.
وبالرجوع إلى كتاب (الفتنة ووقعة الجمل) لسيف بن عمر فسنجد الرواية في ص 95 بعنوان (أوّل خطبة لعلي رضي الله عنه).
وقد تكلمت أكثر من مرة عن قيمة مرويات سيف التميمي الزنديق الوضّاع، ومن المحتمل أنه أخذ شيئاً من الحقيقة وأدخل معها ما اشتهى من تفاصيل بحسب أهدافه الخبيثة. وكما ترى فإنّ الرواية منسوبة للإمام زين العابدين (ع)، والله أعلم.
واشتملت الرواية على أبيات شعرية غير موزونة أحياناً، بما يدلّ على الوضع والتزوير.
وأما محمد بن طلحة الشافعي (ت652هـ) فقد ذكر الخطبة 21 كجزء من الخطبة 20 من نهج البلاغة، وجاء ذلك في كتابه : مطالب السؤول في مناقب آل الرسول

ألّف ابن طلحة كتابه هذا في مدينة حلب في أخريات حياته، وفرغ منه في 17 رجب (سنة 650 ه)، أي قبل وفاته بسنتين، فقد توفى في 27 رجب (سنة 652). والكتاب مرتّب على اثني عشر باباً بعدد الأئمة من عترة النبي (ص). بادئاً بأمير المؤمنين (ع)، وخاتماً بالإمام المهدي (ع). قال المصنف: (ألزمت نفسي تأليف هذا الكتاب قياماً بحقّه (ع) .. فشرعت في تصنيفه، وجمعت همّتي لتأليفه، وسمّيته:مطالب السؤول في مناقب آل الرسول، ونهجت جُدَدَ المطالب، واستخرجت زُبْدَ المناقب، بمخضِ المعقول والمنقول، فجاء جامعاً للفضائل، صادعاً بالدلائل، شارعاً مناهج الوصول إلى السؤول...).