شهادة السمع والأبصار والجلود في الآخرة.. تلاوة وتفسير الآيات 19-25 من سورة فصلت


(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) 19
- إنذار لأعداء الله من مصيرهم الأخروي الخطير. والتقدير (وأنذرهم يوم يُحشر...).
- (فَهُمْ يُوزَعُونَ) الوزْع كفّ المحشورين بعضهم عن بعض ومنعهم من الفوضى، وفي الآية دلالة على كثرة المحشورين، توهيناً لهم.
(حَتَّىٰ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) 20
- فإذا وصلوا إلى النار، أنكروا أعمالهم، طمعاً في تخفيف العذاب، أو محاولة يائسة منهم للتخلص من تبعات أعمالهم، وإلا فقد:
1. علم الله ما كانوا يصنعون.
2. شهدت به الحفظة.
3. قرئ عليهم كتابُهم.
4. وما أُحضروا للنار إلا وقد تحققت إدانتهم.
- وفي مقابل هذا الإنكار، تشهد عليهم جوارحهم، وهي شهادة تكذيب وافتضاح، إذ تكون هذه الشهادة زيادة خزي لهم.
س: لماذا خُص السمع والأبصار والجلود بالشهادة على هؤلاء دون بقية الجوارح؟
ج: السمع والبصر من أهم وسائل الإدراك وتلقي المعلومة. والجلود هي المباشرة للفعل، وهي حاوية لجميع الحواس والجوارح.
س: لماذا خص السمع والأبصار والجلود بالشهادة هنا، بينما خصت الألسن والأيدي والأرجل بذلك في قوله تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النور:24]
ج: حيث أن السياق الخاص بهذه الآية هنا يتعلق بالمشركين الذين كانوا يواجهون رسالة النبي (ص)، لذا فقد خص السمع على اعتبار أنه منافذ كلمات الرسالة إليهم، وخصّت الأبصار لأن القرآن الكريم طلب من المشركين أن ينظروا إلى آيات الله ويتفكروا فيها ليهتدوا إلى التوحيد، وخصّت الجلود بالشهادة لأنها تحوي جميع الجسد، فتكون شهادة الجلود عليهم شهادة على أنفسها، أما آية سورة النور فتخص رمي المحصنات: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النور:23-24] وهي جوارح السعي لذلك.
س: لماذا ذُكر السمع مفرداً بينما ذُكرت الأبصار بصيغة الجمع؟
ج: هناك عدة احتمالات، من بينها أن السمع مصدر، والمصادر لا تُجمع، ولو جيء بكلمة أذن لربما جمعت كما في قوله تعالى: (وَفِى ءاذانِنَا وَقْر) [فصلت:5].
أو أنّ هذا ما يقتضيه تمام الفصاحة من خفة أحد اللفظين مفرداً والآخر مجموعاً عند اقترانهما، فإن في انتظام الحروف والحركات والسكنات في تنقل اللسان سراً عجيباً من فصاحة كلام القرآن. ولذا نجد في القرآن استعمال (الظلمات) بصيغة الجمع فقط، و(النور) بصيغة المفرد فقط، لأن لفظ الظلمات بالجمع أخف، ولفظ النور بالإفراد أخف.
وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 21
س: ما خصوصية الجلود كي تكون هي الوحيدة التي تسأل من قبلهم؟
ج: لأن الجلود مواجهة لهم، لذا توجهوا إليها بالملامة.
- الاستفهام في قولهم (لِمَ شَهِدتُمْ عَلَيْنَا) مستعمل في الملامة، وهم يحسبون أن جلودهم لكونها جزءاً منهم لا يحق لها شهادتها عليهم لأنها تجر العذاب إليها.
- ولنلاحظ أن الخطاب للعاقل، وما ذاك إلا لأن التحاور معها صيرها بحالة العقلاء يومئذٍ.
- (قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) هذا اعتذار بأن الشهادة جرت منها بغير اختيار. وهذا النطق من خوارق العادات كما هو شأن العالم الأخروي.
- (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) من المحتمل أن هذا من تتمة كلام الجلود. ويمكن أن تكون جملة اعتراضية.
- وهي تدل على عظيم قدرة الله سبحانه، وأنه لا يعزّ عليه شيء، فلو تدبّر الإنسان في أصل الخلقة والبعث بعد الموت لوجد ذلك أشدّ وأصعب من تمكين الجلود من الشهادة.
- كما تدلّ على الغاية من الشهادة وهي المحاسبة والثواب والعقاب بعد الإرجاع إلى الحياة: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون:115-116].
وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ 22
- لقد كنتم تظنون حال حياتكم الدنيا أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون، وما كان يخطر على بالكم أن جواركم قد تشهد عليكم في الآخرة، ولذا تجرأتم وتآمرتم وكذّبتم واستكبرتم معتقدين أنه لو كان البعث والرجوع الأخروي حقيقة، فإنه يمكنكم التهرّب من تبعات مواقفكم بالإنكار.
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ 23
- إن هذا الظن والاعتقاد الباطل بحق صفات الله وقدرته على الاطلاع على كل شيء، خفي وظاهر، وبحق قدرة الله على الإتيان بشهود منكم وفيكم، هو الذي أرداكم إلى هذه النتيجة البائسة ليكون مصيركم النار فأصبحتم من الخاسرين.
فَإِن يَصْبِرُواْ فَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ 24
- (وَإن يَسْتَعتِبُوا) إنْ يسألوا العُتْبَى ويطلبوا رجوع الله (العاتب) عن لومهم وعقابهم.
- (فَمَا هُم مِنَ المُعتَبِينَ) أي أن الله لا يُعتِبُهم، أي لا يقبل منهم.
- إن النتيجة الحتمية لما قدّموه في الدنيا هو الزجَّ بهم في النار، فإن صَبَروا واستسلموا فهم باقون في النار، وإن اعتذروا لم ينفعهم العذر، ولم يقبل منهم التنصل.
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ 25
- إن هؤلاء القوم لما جحدوا وعاندوا واستكبروا، فإن النتيجة الطبيعية لذلك أن تفتح لهم أبواب الضلالة والكفر والانحراف على مصراعيها.
- (وَقَيَّضْنَا) هيأنا (لَهُمْ قُرَنَآءَ) من شياطين الإنس والجنّ من الذين يعملون على إضلال الناس، فيحرِّكون شهواتهم لتندفع إلى ارتكاب الحرام، ويدفعونهم نحو التصلّب في مواقف الاستكبار والعناد.
- (فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) وشجعوهم على المضي في مواقفهم المنحرفة والمعادية للرسالة، والاستغراق في شهواتهم، وفي خداع أنفسهم بأن لا عودة إلى الحياة بعد الموت، ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب أخروي.
- والنتيجة لذلك حتمية هذا المصير الأخروي البائس والمخيف، لأن الله أخذ على نفسه ذلك، وهم لا يمثّلون التجربة الأولى في هذا الإطار: (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ) ممّن استقر عليهم العذاب لنفس الأسباب (إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ).