شرح نهج البلاغة - الخطبة 16- القسم السابع والأخير


يستمر الإمام (ع) في بيان الموقف المطلوب في أجواء الصراع بين الحق والباطل:
مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ. وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ. لاَ يَهْلِكُ عَلَى التَّقْوَى سِنْخُ أَصْلٍ، وَلاَ يَظْمَأُ عَلَيْهَا زَرْعُ قَوْمٍ. فَاسْتَتِرُوا فِي بُيُوتِكُمْ، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ وَرَائِكُمْ، وَلاَ يَحْمَدْ حَامِدٌ إِلاَّ رَبَّهُ، وَلاَ يَلُمْ لاَئِمٌ إِلاَّ نَفْسَهُ.
شرح المفردات
مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ
صَفْحَتَهُ: سيفه.
لاَ يَهْلِكُ عَلَى التَّقْوَى سِنْخُ أَصْلٍ
السِّنْخُ: المنبت، يقال: ثبتت السنّ في سِنْخِها: أي مَنبتها.
شرح الفقرة
مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ.
ومن يواجه الحق بالقوة والعنف
ويقف ضده يهلك.
وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ.
يحذر الإمام (ع) هنا من مغبة التقييم الخاطئ
الذي قد يقوم به الإنسان في أجواء الصراع
بين الحق والباطل، فيخيل لنفسه مقاماً وشأنا
أكبر بكثير مما يستحق، فيتكبر على الحق،
ويتطاول على أهله، ويقع في الهلكة بوقوفه
في الجانب الخطأ اغتراراً بنفسه.
ومن الواضح أن الإمام يحذر البعض ممن
تضخمت شخصياتهم دون أن يمتلكوا في
ميزان التقييم الإلهي تلك القيمة
ولذا قد يقفون حجر عثرة في طريق
الإصلاحات التي قرر الإمام أن ينهض
بها بعد مبايعته، ولربما يعلنون الحرب
عليه انتصارا لذواتهم أو تحقيقا لمآرب شخصية
لاَ يَهْلِكُ عَلَى التَّقْوَى سِنْخُ أَصْلٍ. وَلاَ يَظْمَأُ عَلَيْهَا زَرْعُ قَوْمٍ.
أخيرًا ، يقدم الإمام بعض النصائح لعامة الناس
إن اتبعوها أمكنهم الخلاص من براثن المنافقين وأدعياء الحق
ومثيري الفتن، وأولاها: الوصية بالتقوى التي شبهها بالأرض
والمنبت القوي الذي إن زرعت فيها شجرة، رسخت، ونالت
الزروع المثمرة ما تحتاج إليه من ماء لنموها وإثمارها
وكأنه يذكر الناس أو ينطلق من الآية الشريفة
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ

إبراهيم
24-25
فَاسْتَتِرُوا فِي بُيُوتِكُمْ،
ثاني وصية وجهها لمن تكسّب من المرحلة السابقة
أو انحرف وأخطأ في مسيرته، والوصية تمثل
في دعوتهم لترك الحياة العامة والاعتزال لفترة

وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ،
الوصية الثالثة تتمثل في تحقيق المصالحة
بين أطراف النزاع ونزع الإحن والأحقاد من النفوس
وَالتَّوْبَةُ مِنْ وَرَائِكُمْ.
الوصية الرابعة تتمثل في الإقبال على التوبة
وعقد العزم على عدم العود مجدداً إلى ما
من شأنه الإفساد في الأرض أو المشاركة في
نصرة الباطل أو إثارة الفتن.
وَلاَ يَحْمَدْ حَامِدٌ إِلاَّ رَبَّهُ،
فإن وفقتم لذلك فالحمد لله وحده
لأنه الذي يوفق الإنسان للتوبة والصلاح والإصلاح
ولا توجهوا قلوبكم لأحد وكأنه هو المنعم عليكم
بذلك، فالإمام هنا يحذر من عبادة الأشخاص
والوقوع في فخ الصنمية حتى لو كان هو المستفيد
من ذلك، وكان بإمكانه توظيف ذلك لمصلحته
لاسيما بعد كل الكلام الذي بيّن فيه مقاماته
وَلاَ يَلُمْ لاَئِمٌ إِلاَّ نَفْسَهُ.
تحملوا مسئولية أخطائكم، ولا تلقوا بثقل أخطائكم
على أحد، وإلا فإنكم -حينئذ- لن تصلحوا أنفسكم
وستخلقون العداوات من جديد، ويكون مسعاكم
للإصلاح سبباً لمزيد من الفتن والخلافات والصراعات.