ما مدى حقيقة عذاب البرزخ ؟- تلاوة وتفسير الآيات 36-46 من سورة غافر


(فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) 45
- من الآيات 38-43 من سورة غافر، يستمر مؤمن آل فرعون بدعوة قومه لتوحيد الله، والكفر بالآلهة المزعومة، والعمل للآخرة، بما يعني أنه كشف كل أوراقه بعد أن كان يكتم إيمانَه، ولذا قال في الآية 44: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، بما يعني استعداده لتحمّل مسئولية كلامه السابق والذي قد تترتب عليه العقوبة الشديدة من قبل فرعون أو المتعصبين من قومه كالكهنة وأمثالهم، توكلاً على الله سبحانه وتسليماً له ولجوءً إليه.
- وقيل أن التفويض حالة أرقى من التوكل، ففي التوكيل قد تبقى تراقب وتتابع الأمر مع الوكيل، وأما في التفويض فإنك تسلّم الأمور كاملة له ليفعل ما يشاء. وقد روي عن أمير المؤمنين علي (ع) قوله: (الإيمان له أربعة أركان: التوكل على الله، وتفويض الأمر إلى الله عز وجل والرضى بقضاء الله، والتسليم لأمر الله)، فالتفويض هنا قسيم للتوكل.
- في أمالي الصدوق: (عن الصادق [ع] قال: عجبت لمن فزع من أربع كيف لا يفزع إلى أربع: عجبت لمن خاف العدو كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾! فإني سمعت الله عز وجل يقول بعقبها: ﴿فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾، وعجبت لمن اغتم كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: ﴿لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾! فإني سمعت الله عز وجل يقول بعقبها: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾، وعجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾! فإني سمعت الله عز وجل يقول بعقبها: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾، وعجبت لمن أراد الدنيا وزينتها كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: ﴿مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾! فإني سمعت الله عز وجل يقول بعقبها: ﴿ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالا وَوَلَدًا، فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ﴾، وعسى موجبة).
- وهكذا، حفظ الله سبحانه هذا العبد الصالح والشجاع، وأفشل مخطط أعدائه الذين أرادوا إلحاق الضرر به، وأنجاه من مكرهم، دون توضيح طبيعة ذلك المخطط، وكيفية التخلص منه، وما يتعلق بذلك من تفاصيل، وإن كان من المحتمل أنه خرج مع موسى (ع) ومن معه، لاسيما بلحاظ تتمة الآية (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) وتسميته مكراً للدلالة على السرية.
- وحيث أنّ المكر في حد ذاته سيّء، لذلك فإن إضافة (سَيِّئَاتِ) إلى مكر إضافة بيانية لمزيد من التأكيد على سوء نواياهم وخطتهم. كما أن مجيء كلمة (سَيِّئَاتِ) بصيغة الجمع للدلالة على تعدد أنواع المكر الذي بيّتوه.
- (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) حَاق: أحاط.
- وذِكر (آل فرعون) لا يعني استثناء فرعون منهم كما ذهب إلى ذلك البعض بلحاظ أنه قال في اللحظات الأخيرة من حياته: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) [يونس:90-92] بل جاء ذلك اختصاراً.
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) 46
- اختُلف في تأويل صدر الآية (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا):
1. أنه بيان للمراد من (سُوءُ الْعَذَابِ)، فهو عذاب قبل عذاب يوم القيامة، وذلك في عالم البرزخ، ثم -في الآخرة- يزج بهم في النار.
2. الآية 45 تحدثت عن العذاب الأول الذي لحق بهم ووصفته بالسوء، وهو الغرق، وذلك في الحياة الدنيا. ومن الواضح مناسبة استعمال كلمة (حَاقَ) الدالة على (الإحاطة) بهذا النوع من العذاب. وهناك عذاب آخر قد أعدّ لهم في البرزخ قبل قيام الساعة، وجاءت الآية 46 لبيانه. ثم هناك عذاب ثالث، وهو عذاب الآخرة، فالمجموع 3 مجموعات من العذاب.
3. (سُوءُ الْعَذَابِ) الذي حاق بهم، شامل للغرق، ولعذاب البرزخ (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا).
4. الآية 46 تتحدث عن الآخرة فقط، ولا يتحدث صدرها عن البرزخ، فقد تحدث القرآن الكريم عن مسألة عرض الكافرين على النار في موارد أخرى ضمن أحداث يوم القيامة:
أ) (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ) [الأحقاف:20]. فقوله (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) يدل على أن الأمر يخص الآخرة.
ب) (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ) [الأحقاف:34].
ج) (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا، وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا) [الكهف:99-100].
- وهذا العرض بإبراز النار للكافرين قبل دخولهم فيها، خلال عملية الحساب الأخروي، كنوع من التعذيب النفسي السابق للتعذيب الجسدي المباشر، ومنها نفهم المراد من عرض آل فرعون على النار.
- ويعارض ذلك تتمة الآية (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)، فهناك عذاب حاق بآل فرعون، وهو سوء العذاب، وهناك عذاب يوم تقوم الساعة وهو أشد العذاب.
- نعم، التعبير بـ (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) فلا يدل بالضرورة على الحياة الدنيا، فقد تكون كناية على الاستمرارية كما أشار إلى ذلك العلامة الطباطبائي في تفسيره.
- وقد استدل البعض على مسألة العرض على النار في البرزخ على عدم وجود تعذيب مباشر بها، على خلاف الروايات التي تتحدث عن أنواع من العذاب الذي يلحق بالكافرين والعصاة، وإلا لكان آل فرعون من أولى الناس بذلك.
- كما أن عرض آل فرعون على النار خلال البرزخ لا يعني أن يكون ذلك مصير سائر الكافرين، فقد يكون حالة استثنائية كما هو الأمر بالنسبة لمن يقتل في سبيل الله: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران:169]، وإلا ما الامتياز في حياتهم البرزخية إن شاركهم في ذلك سائر المؤمنين؟