ذلك فضلُ الله - الشيخ علي حسن

نفحاتٌ من روْحِ الجِنان تلفُّ المكان..وعِطرٌ من أريج رياضِها يملأ الأنفاس..وخشوعٌ قدسي يُلقي بظلالِه حيثُ امتد..وهمساتٌ غيبية تتهادى في الأرجاء..وفي ركنٍ من الحُجرة البيضاء نورٌ يتلألأ..ويشدُّ القلوب الى حيث يرقد ذلك الجبلُ الأشم..وهو يشق بعليائه عَنان السماء..شموخٌ لم يعرف معنى الانحناء إلا حين يختلي بخالقه..وعزٌّ لم يعرف الهوان الا في سجود الصلاة..وسموٌّ لم يعرف دموع التذلل الا في حروف الدعاء..وتراتيل السّحر..
وفوق ذلك الطُّورِ الشامخ روحٌ تُطِلّ على أحبابِها وهم يُفيضون مشاعر الفِراق المستحيل على (السيد) الذي طالما احتضنهم بقلبه الكبيرِ الكبير..فلم يشعروا معه بغُربةٍ قد تأتي بها هذه اللحظات الموحشة..
روحٌ مازالت تُفيض عليهم دفء الأبوّة..وسكينة النّفس..وطمأنينة الايمانِ بقدر الله..وعذوبة الكلمات الحانية التي ما انفكّ يكررها: اني أحبكم..في الله..وفي الاسلام..أنتم أهلي..وأنتم أحبتي..روحٌ أحبت الانسان الذي يختلف معها..كما أحبت الانسان الذي يتفق معها..لأنكم هكذا كان يؤكد لا تملكون ان تدخلوا قلوب الآخرين إلا اذا فتحتم قلوبكم لهم..
روحٌ مازالت تمسحُ بأناملها على رؤوس الأيتام في مبرّات الخير..وتملأ فراغ نظراتِهم بعطاءٍ تجاوز ما فقدوه بموتِ الآباء..ونظّر زهرة حياتِهم التي وشكت على ان تذبُل في زحمة الأثرة..فرسم على شفاههم ابتسامة الأملِ في الحياة..والتطلّع الى مستقبلٍ مشرق..ودفع كلّ انسانٍ يحمل بذرة الخيرِ في نفسه الى العطاء في هذا الطريق..كان يقول: (مؤسسات جمعية المبرات الخيرية لكم جميعاً، لسنا وحدنا الذين نتحمل مسؤليتها، هي أمانة الله التي حمّلناها لنحملها اليكم.قد لا يستطيع أحدُكم ان يعطي، ولكنه يستطيعُ ان يدُلّ على العطاء، ويستطيعُ ان يجعل الناس يعيشون العطاء)..هكذا قال أبو الأيتام..وبهذا العنوان عرفوه..وبمشاعر الانتماء اليه أحبُّوه..
روحٌ مازالت تتسمّع وقْع أقدام المستضعفين والمحتاجين..وهم يفدون على صاحب القلب الكبير ليبثّوا اليه همومهم..ويشكوا اليه صنيعة الزمان..فقد كانوا يؤمنون أنهم الأقربُ الى قلبه..فيسبقهم برأفته..ويلملمُ لهم كبرياءهم الذي حطّمه عِوزُ الحاجة..
روحٌ مازالت تتطلع الى سلاحِ المقاومين..وأزيزِ رصاصاتِهم وهي تمزّقُ صدور الصهاينة الذين أرادوا ان يحطّموا كبرياء جبلِ الصمود والشهداء..جبل عامِل..وضاحيةِ البطولةِ والفِداء..فرجعوا صاغرين يجبِّن بعضُهم بعضاً..ويلعنُ أخرُهم أوّلهم..روحٌ بنت أجيال الاباء..وعلّمتها كيف تقول (لا) للمحتلين..و(لا) للمستكبرين..و(لا) للظالمين..و(لا) للمعتدين..فنهلت من مدرستِه معالم ثورةِ أبي الأحرار..وانطلقت في ميادين الصراع تحطّمُ الأصنام..وتحقق الانتصارات..وتقدِّمُ القرابين..انها الروح التي عشِقت وقْع أقدامِ المقاومين الراسخةِ في الدفاع عن الكرامة والعزة والشرف..روحٌ حسينية شحذت هِممهم..وقوّت عزائمهم..(أيها البدريّون)..هكذا خاطبهم..(أيها البدريون..أيها المجاهدون في خيبر الجديدة، الذين حملوا الراية فكانوا ممن أحبوا الله ورسوله، الذين يكِرُّون ولا يفِرُّون..ان جهادكم سوف يصنع للعرب والمسلمين والمستضعفين المستقبل الجديد)..فكان من آخر كلماته ان قال: (لن أرتاح قبل ان تسقط إسرائيل)..
روحٌ مازالت تأملُ في يومٍ تجد فيه الوحدةُ بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم طريقاً سالكةً..ومورداً معبّداً..لأنها حسب (السيد) المسألةُ التي تتقدم على ما عداها من أولويات..ولأن الفُرقة لا تخدم الا العدوّ المشترك..ولأن الاساءة الى مسار الوحدة تمثِّلُ اساءةً الى الاسلامِ نفسِه..وعلى المسلمين ان يعملوا من أجل القيام بمشاريع وحدوية حقيقية..فكراً وسياسةً واقتصاداً واجتماعاً..
روحٌ مازالت تفتح للعطشى مناهل العلم الغزير..والفكر النيِّر..والأدب الجم..من أصالةِ الاسلام..وحركة العقل..وفيوضات الوجدان الانساني..في عمقِها القرآني..ومنهجِها النبوي..وبلاغتِها العلويّة..وواقعيتِها المتجددة..
فقد كان (السيدُ المرجعُ الفقيه)..الذي لم ير المرجعية عُنواناً يضادُّ حركته بين الناس ليعزله عنهم..أو يعرقلُ مسيرة العطاء العلمي والروحي في الآفاق الرحبة..أو يؤطّرُه في اطارٍ فقهي محدود..أو يحرِّمُ عليه تعاطي السياسة في عناوينها الكبرى..أو يحصرُه فيما قدّمه الماضون وفق ما فرضته عليهم الظروفُ التي عاشوها..والبيئةُ التي أحاطت بهم..بل كانت المرجعيةُ العنوان الذي انطلق من خلاله ليقدِّم للناس..كلّ الناس..فقه الحياة..من المنبع الأصيل..وفي اطارها المتغير بتغيّر الزمن والظروف..فقد كان يرى أنه قد (تحركت ذهنية التنمية في المسائل الفقهية في مواجهة كلِّ المتغيرات على صعيد المشاكل الانسانية في الواقع المعاصر المتطور..اننا نجد في مفردات الشريعة الكثير من التشريعات التي تدعو الى العمل المنفتح على كل حاجات الحياة)..
وكان (السيدُ المرجعُ السياسي) الذي تلجأ اليه أعلامُ السياسة ليرسم لهم المشهد الحاضر..والمشهد المستقبل..وليقدِّم لهم النصح من موقع المسؤولية..وبالروح الأبوية التي تريد للجميع ان يدركوا ان السياسة تعني اقامة العدل..والموازين القسط بين الناس..والتي تريد للجميع ان يوظّفوا مواقعهم والعناوين التي يحملونها لرفع الظلامات عن المحرومين..وتأمين الحياة الكريمة للناس..
وكان (السيدُ المرجعُ الانسان)..صاحب التواصلِ الدائمِ مع الجميع..والحوار المنفتحِ على الكل..اذ لم تمثِّل الانتماءاتُ المتباينةُ بالنسبة اليه أيّ عُقدةٍ أو عائقٍ عن الانفتاح على الآخر..بل كان هو المبادر لدعوة الجميع اليه بكل محبّة وأريحيّة..ليستمعوا الى خطابِ العقل..خطابِ القرآن..خطابِ الاسلام..وليحاوروه فيما شاءوا..فليس في السؤال شئ محرم..وليس في المعرفة شئ تافه..
روحٌ مازالت تشتاق الى القلم الذي عشِق أنامل (السيد) الذي أعطى للكلمة عمقاً في المعنى..وامتداداً في الحياة..وحركةً في الواقع..القلمُ الذي لم يهدأ..حتى حين احتضنه فِراشُ المرض..قلمٌ خطّ أسفار (السيد): من وحي القرآن..وعرفانُ القرآن..والحوارُ في القرآن..وخطواتٌ على طريق الاسلام..وآفاقُ الروح..وفقه الشريعة..وفقهُ الحياة..وتأملاتٌ اسلاميةٌ حول المرأة..ودنيا الشباب..والحوارُ الاسلامي المسيحي..وحركةُ الأنبياء..وعليٌّ ميزان الحق..والزهراءُ القدوة..ومن وحي عاشوراء..وفي رحاب أهل البيت..والسلسلة تطول وتطول..لتقدم للبشرية رسائل المعرفة..ونبض الحياة..
انها الروحُ الخالدة التي احتضنت كلّ ذلك الواقع بحلاوته ومرارته..بعنفوانه وتردّيه..بايجابياته وسلبياتِه..بانفتاحه وبعُقدِه..فقدّمت له الكثير دون ان تعرف معنى الراحة الا في العمل والاخلاص..ومعنى الغِنى الا في التقوى والعلمِ والقِيم..فكانت النفس المطمئنة التي أذِن لها الرحمنُ ان ترجع اليه..فأسلمت أمْرها الى الله..وفاضت الى بارئها وهي تردِّد آخر كلماتِ (السيد)..الله أكبر..الله أكبر..
فذلك فضل الله..