محمد حسين فضل الله في عالم زال قديمه ولم يتكوّن حديثه - الفضل شلق - جريدة السّفير

رحل الإمام محمد حسين فضل الله. كان عملاقاً في فكره ونضاله. مأساته أنّه عاش في عالمٍ ينهار، عالم ما بعد الاستعمار الذي يتزلزل فيه الدين، وتعجز الدولة عن تقديم بديل، وتنهار الأسرة، وتعجز الجماعة عن تقديم الحلول لنفسها. هو عالم يتزلزل: تنهار فيه الذّات ولا تبرز فيه الأنا. ذات دون «أنا». ساهمت الهزيمة في ذلك، لم تفلح الثّورة في تقديم الحلول وفي تقديم بنى جديدة لهويّة أو هويّات بديلة. عالم زال قديمه ولم يتكوَّن حديثه. الحداثة فيه امتداد لتقليدٍ لم يعد موجوداً، أو تعليب لغرب مستورد ولا يفي بالمطلوب. عاش السيّد مأساة العصر؛ كارثة الزلازل وهول السّقوط. كان إسلاميّاً وكان عربيّاً وكان وحدويّاً وكان منتمياً إلى المهمّشين. وحدويّة العروبة انهارت؛ صحوة الإسلام تبعثرت؛ المهمّشون زاد تهميشهم وصاروا مجرّد أرقام، مجرّد خيالاتٍ لأنفسهم تقوم مقام مساراتٍ بلهاء المصير فاقدة الأمل، والأمل وهم. انفكّت الصّلة بين الذّات والانا. الذات تفتّش عما يعيد الأنا إليها كي تصبح فاعلةً والأنا تحت السنابك؛ هدف للقنابل. هي باختصار موضوع حرب الإرهاب. في مواجهة حرب الإرهاب لا يفيد الدّين ولا السياسة ولا الأخلاق في المواجهة، في مواجهة حرب الإرهاب الموجّه ضدّ من انتمى إليهم فضل الله، هناك بعثرة وتشرذم. حاول عن طريق وحدة المذاهب ولم يفلح. المذاهب ذاتها أصبحت فاقدة المعنى والمغزى.

حاول عن طريق الفتاوى، ومعظمها تطرّقت إلى غير المألوف، أن يصلح ويجدّد الإسلام، وربما يوحّده. رأى ما يحدث غير ذلك. صحوة تسير في طريق آخر؛ ليس طريق الإصلاح والتّجديد والتوحّد المذهبيّ لاكتساب القوّة، رأى المسار الفعليّ مسار هويّة تحاول تأكيد ذاتها في وجه قوى قاهرة. رأى ولاية الفقيه محاولة لحلّ مشاكل رأس الهرم، لكنّه رأى قاعدة الهرم تتبعثر. إشكاليّته كانت المهمّشين لا الحكّام؛ حركة الجماهير لا من يتولّى السّلطة باسم ولاية الفقيه أو غيرها. حاول أن يكون امتداداً لعصرٍ ثوريّ، عصر الثّورات الشعبيّة والحركات الوطنيّة. حاول إنقاذها بتعابير وتسمياتٍ أخرى عن طريق الدّين وشعاراته وفتاواه. رأى الأمور تسير غير ذلك.

رأى الدّول الحاكمة امتداداً للاستعمار والإمبرياليّة. حاول التّنبيه إلى ذلك وإنقاذ الجماهير منها. سارت الأمور بغير ذلك. رأى الجماهير بحاجةٍ إلى شيءٍ وحيدٍ يجعل منها قطيعاً يمنحها اتجاهاً، يعطيها معنى ومغزى من أيّ نوعٍ كان. لم يكن غير الإسلام متاحاً، لكن الإسلام يتزلزل؛ وما يتزلزل لا يصلح أداةً للجمع والتّعبئة والتّحشيد في سبيل مواجهة القوى الإمبرياليّة القهّارة.

كان كائناً سياسيّاً من الطّراز الأوّل. ربما طغى وعيه السياسيّ على توجّهه الفقهي، رغم أنّ إدراكه الفقهيّ كان متفوّقاً، شارك في تأسيس «حزب الدّعوة» في العراق ثم المقاومة الإسلاميّة في لبنان، ثم اضطرّ إلى اتخاذ مسارٍ منفرد. رأى السياسة تتشرذم أمام وعي مفتّت سيطرت عليه التشنّجات الطائفيّة والمذهبيّة التي لم تترك مجالاً للحوار المدنيّ (ناهيك بالحوار حول التّقريب بين المذاهب) بين النّاس. وجد السياسة مصادرةً؛ صادرتها أنظمة استبداديّة ونخب ثقافية تفتقر إلى المعرفة، وتتسكّع على أعتاب السّلطات، وتضع رأس أهدافها أن تصبح بيوقراطيّةً تعمل لدى السّلطات. ذَوَتْ السياسة أمام الهويات المذهبيّة، وما عاد ممكناً الحوار بين أطراف المجتمع، سواء كانت طبقيّةً أو طائفيّةً. ما عاد الوعي بالمصالح يشكّل دافعاً لدى النّاس، والمصالح قصيرة المدى طغت على المصالح طويلة المدى، المصالح الخاصّة على المصالح العامّة. المصالح العامّة هي التي تنتج مثلاً عليا، هي ما يعطي الحياة معنى ومغزى، وهي ما يجعل اندماج الفرد في المجتمع عملاً متوازناً ذا سويّة أخلاقيّة واجتماعيّة. المصالح الخاصّة هي ما ينتج الأنانيّة وانفصال الأنا عن الذّات الاجتماعيّة، سواء كانت فرديّةً أو جماعيّة. في هذا الانفصال انفصام شخصيّة وتعطيل لملكة التّفكير، وبالطبع تعطيل لإمكانية التفكير العقلانيّ. تسيطر الغرائز بالأحرى. تُصنع الغرائز وتسيطر على العقل وحساب المصلحة والانتماء إلى المجتمع والأمة. تكوَّن المجتمع العراقيّ من مكوّنات طائفيّة وإثنيّة بعد الاحتلال الأميركيّ، كما تكوّن لبنان من مكوّناته الطائفيّة قبل ذلك بكثير. تلبنن العراق دون دعاوى العيش المشترك المهذّبة أو الكاذبة. وعندما يتكوّن المجتمع من طوائف، عندما يعاد تشكيله على يد القوى المهيمنة من طوائف وإثنيّات، لا تترك مجالاً للخيارات الفردية ولا للسياسة على أساس مجتمعٍ مكوّنٍ من أفراد أحرار، لا بدّ من أن تسيطر عوامل الخوف والتّخوين، وأن يسعى الجميع وراء المصالح الخاصّة قريبة المدى على حساب المصالح العامّة العليا طويلة المدى. حينها تفسد السياسة ويفسد الوعي ويؤدّي فساد الوعي والسياسة إلى فساد الدين.

واجه محمد حسين فضل الله مجتمعه كما واجه القوى الإمبرياليّة الخارجية. اتجه إلى العمل الاجتماعيّ الأخلاقيّ من أجل أن يعيد إلى الدّين اجتهاده، فيضعه على سكّة الحداثة، لا الحداثة المعلّبة والمستوردة، بل الحداثة التي تستجيب لتطوّر المجتمع كما هو، الحداثة التي تؤسّس لمستقبلٍ يتحكّم به الوعي السويّ لا الوعي المفوّت، له خصوم من هنا ومن هناك، خصوم أقوياء، لكن ما فترت همته ولا تراجع. ساهمت المبرات التي رعاها في بناء المساجد والمكتبات والمستشفيات والمدارس، وكأنّ ذلك كان اعترافاً منه بضرورة العودة إلى تأسيس الوعي بعد أن فقد الأمل بالسياسة والتجديد الديني. تبقى هذه المؤسّسات صروحاً للمستقبل لإنتاج وعيٍ جديدٍ غير الذي نشأ ونشأنا عليه. إعادة تشكيل الوعي من قاعدة الهرم صعوداً، صارت هي سبيله في النضال والمواجهة. لم ييأس ولم يستسلم. ما بناه كان ضرورةً، وما بناه تعجز الدّولة أحياناً عن بنائه، وما بناه سدّ ثغراتٍ كبرى في عمل الدّولة، وما بناه كان خدمةً للمهمّشين المستضعفين.

ترك ما يجب المحافظة عليه ورعايته وتطويره. أهمية المؤسسات، بخلاف جميع النشاطات الاجتماعيّة والخيريّة الأخرى، أنها قابلة للبقاء. نرجو أن تبقى على ازدهارها.

يستحقّ الإكبار والاحترام الكلّيّ هذا السيد المناضل الذي بناها. نترحّم عليه، ونحن واثقون أنّ ثوابه عند الله أكبر وأفضل وأهم من كلّ ما يمكننا إسباغه عليه. مع غيابه صرنا أكثر حاجةً إلى أفعاله. رحل وترك فراغاً هائلاً. يصعب سدّ هذا الفراغ.