خطبة الجمعة بعنوان شبهة سرداب الغيبة - الجزء الثالث


خطبة الجمعة وعنوان المحاضرة شبهة سرداب الغيبة ـ الجزء الثالث
عند الحديث عن تفاصيل عقيدة المسلمين الشيعة بخصوص الإمام المهدي المنتظر عليه السلام، تثار مسألة (سرداب الغيبة) كمؤاخذة عليهم، وملخّص الإشكال أن الشيعة يقولون بأن المهدي دخل في السرداب فغاب فيه، وأنهم يتوقعون خروجه منه في آخر الزمان.
وحقيقة الأمر أن إثارة هذه الشبهة ليس بالأمر المستحدث، وقد خاض فيه ابن كثير وابن خلدون وابن تيمية وآخرون، ولعلهم أخذوا ذلك عن بعض الأحاديث الموضوعة ومما يتداوله بعض العوام من الناس في ذلك الزمان، دون أن يكون ذلك هو حقيقة المعتقد الذي يؤمن به المسلمون الشيعة.
التحقيق أولاً:
وأستغل هذه الفرصة لأشير إلى قضية مهمة لعلها تكون سبباً لتقريب وجهات النظر، وتقليل موارد الاختلاف والتشنج القائم بين المذاهب الإسلامية، وفي ما يقوم به هذا الطرف من تسجيل النقاط ضد الطرف الآخر، فمن المفترض أن يكون أساس البحث والنقاش قائماً على ما يقرره العلماء والمختصّون من كل مذهب حول قضية ما، لا أن تكون الروايات والأخبار الواردة في الكتب ـ وبعض تلك الكتب غير معتمدة أصلاً ـ هي الأساس في البحث، لأن كثيراً من الروايات والأخبار المبثوثة في الكتب والمتراكمة عبر القرون لا أصل لها، وهي من موضوعات أهل الأهواء أوالمدلّسين أوالزنادقة أو أصحاب المصالح السياسية وغيرها، وهو ما أكّده المختصّون في المذاهب الإسلامية المختلفة.
قضية السرداب:
وأما السرداب المجاور لمرقد الإمامين علي الهادي والحسن العسكري عليهما السلام في سامراء، فقد حظي بالاحترام والذِّكر ـ كما يوجد عليه شباك أثري وضعه عليه الخليفة العباسي الناصر لدين الله والمتوفى سنة 622 هـ ـ بسبب أن هذا المكان الشريف كان مصلى لأئمة ثلاثة من أئمة أهل البيت: الإمام الهادي وابنه الحسن العسكري وابنه المهدي المنتظر عليهم السلام، لا لأن الإمام المهدي قد غاب فيه أو أنه سيظهر منه، وهو في هذا يماثل محراب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مصلاّه الموجود في مسجده بالمدينة المنورة، وكذلك محراب التهجّد الموجود في المسجد النبوي الشريف، وكلاهما مقصودان من قبل المسلمين، وسببٌ لتزاحمهم للصلاة عندهما. ومما قرّره علماؤنا في ما له علاقة بقضية السرداب:
1ـ الشيخ باقر شريف القرشي في كتابة حياة الإمام المهدي:
(إن عقيدة الشيعة في الإمام المنتظر عليه السلام بل وفي غيره من مجالاتها العقائدية نقية مشرقة كالشمس مشتقة من صميم الإسلام ومأخوذة من أئمة الهدى الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ولم تؤخذ ـ والحمد لله ـ من كذاب ووضاع ومنحرف عن دينه، وليس في جميع بنودها شذوذ ولا انحراف ولا خروج من سنن الكون ونواميس الطبيعة، وهي تواكب المنطق والفطرة وتساير المجتمعات الإنسانية في جميع عصورها. إن الشيعة تعتقد بأن الإمام سلام الله عليه قد غاب عن أبصار السلطة التي كانت تراقبه كأشد ما تكون المراقبة لتصفيته جسدياً، فغيابه عن الظالمين كغياب جده رسول الله صلى الله عليه وآله عن أبصار قريش حينما أحاطت بداره لقتله، فخرج من بين أيديهم إلى يثرب، وأناب مكانه في فراشه وصيه وباب مدينة علمه ـ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ـ والقوم لا يشعرون. وتعتقد الشيعة اعتقاداً صريحاً بأن الإمام المنتظر عليه السلام لا يظهر من السرداب الذي في سامراء ولا غاب فيه، وإنما يظهر في وضح النهار في مكة المكرمة وفي الكعبة المشرفة، كما ظهر من تلك البقعة المقدسة جده الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله).
2ـ السيد هاشم البحراني في كتابه غاية المرام:
(فأما قوله إن المهدي عليه السلام في سرداب وكيف يمكن بقاؤه من غير أحد يقوم بطعامه وشرابه، فهذا قول عجيب وتصور غريب، فإن الذين أنكروا وجوده عليه السلام لا يوردون هذا، والذين يقولون بوجوده لا يقولون: إنه في سرداب، بل يقولون: إنه حي موجود يحل ويرتحل ويطوف في الأرض).
3ـ الميرزا النوري في كتابه كشف الأستار:
(نحن كلما راجعنا وتفحصنا لم نجد لما ذكروه أثراً، بل ليس في الأحاديث ذكر للسرداب أصلاً).
4 - العلامة صدرالدين الصدر في كتابه المهدي:
(ما نسبه إلينا - من غيابه في السرداب - كثير من خواص أهل السنة، فلا أعرف له مدركاً، ولم أجد له مستنداً).
5ـ المحقق الأربلي في كشف الغمة:
(والذين يقولون بوجوده لا يقولون إنه في سرداب، بل يقولون إنه موجود يحل ويرتحل ويطوف في الأرض).
6ـ العلامة محسن الأمين في كتابه أعيان الشيعة بعد ذكر الشُّبهة:
(ذلك لا أصل له ولا يعتقده ذو معرفة من الشيعة، بل الشيعة تعتقد بوجود المهدي حياً في هذه الدنيا، يرى الناس ويرونه ولا يعرفونه، وقد رفع مولانا الصادق عليه السلام في الأحاديث السابقة المروية عنه في المهدي عليه السلام استبعاد ذلك بأن إخوة يوسف تاجروه وبايعوه وخاطبوه وهم إخوته فلم يعرفوه، قال عليه السلام: "وما تنكر هذه الأمة أن يكون الله يفعل بحُجَّـته ما فعل بيوسف، أن يكون يسير في أسواقهم ويطأ بسطهم وهم لا يعرفونه، حتى يأذن الله عز وجل أن يعرِّفهم نفسه، كما أذن ليوسف"... وقد نشأت شبهة أن الشيعة يعتقدون بوجود المهدي في سرداب بسر من رأى من زيارتهم لذلك السرداب وتبرّكهم به وصلاتهم فيه، وزيارة المهدي عليه السلام فيه، فتوهموا أنهم يقولون بوجوده في السرداب، وتقوَّل بعضهم عليهم بأنهم يأتون في كل جمعة بالسلاح والخيول إلى باب السرداب ويصرخون وينادون يا مولانا اخرج إلينا، وقال إن ذلك بالحلة، ثم شنَّع عليهم تشنيعاً عظيماً ونسبهم إلى السخف وسفاهة العقل، وهذا ليس بعجيب من تقوّلاتهم الكثيرة على الشيعة بالباطل، وهذا الذي زعمه هذا القائل لم نره ولم نسمع به سامع من غيره، وإنما أخذه قائله من أفواه المتقوّلين، أو افتراه من نفسه، حتى أنه لم يَـفهم أن السرداب بسامراء لا بالحلة، وسبب زيارة الشيعة لذلك السرداب وتبركهم به أنه سرداب الدار التي كان يسكنها الإمامان علي بن محمد الهادي وابنه الحسن بن علي العسكري وابنه الإمام المهدي عليهم السلام، وتشرَّف بسُكناهم له).
وخلاصة القول: إن المسلمين اليوم ـ جميعاً ـ بحاجة إلى الحوار الهادئ القائم على الأسس العلمية، بعيداً عن التشنج والتعنّت و كيْـل التهم، كما هم بحاجة إلى قراءة متجددة ـ وعلى نفس الأسس ـ للموروث الحديثي والتاريخي والفقهي والتفسيري، لأنني على يقين بأن كثيراً مما يتراشق به أتباع المذاهب قابلٌ لإعادة النظر فيه وتكوين مشتركات تكون باعثة على التقريب، ودافعة لأسباب الاختلاف والتنازع.