السيّد فضل الله... والبوصلة السياسيّة - قاسم حسين - جريدة الوسط البحرينيّة

بدءاً من هذا الأسبوع، لن تصلنا على بريد «الوسط» خطب السيّد محمد حسين فضل الله، ظهر كلّ جمعة... فقد انتقل إلى خير جوار.

جيلان من النّاس أو أكثر، تأثّروا بإنتاج السيّد فضل الله الفكريّ، وعند المراجعة الذّاتيّة، تتبيّن لي مرحلتان، مرحلة الاطّلاع كقارئٍ على عددٍ من مؤلّفاته في فترة عزلةٍ عصيبةٍ (الثمانينات والتسعينات)؛ ومرحلة التعاطي المهني المباشر مع أفكاره ومواقفه السياسيّة في «الوسط»، حيث اهتممنا بنشرها في صفحات الرأي، لما تمثّله من رؤى ومواقف سياسيّة متقدّمة لشخصيّةٍ دينيّةٍ بارزةٍ تعيش في قلب العصر.

في مرحلة القراءة الأولى، اكتشفت أنّ من أكثر المفردات تردّداً في كتب السيّد فضل الله... «الانفتاح»، و«الحركيّة»، و«من هنا وهناك». فقلّما يخلو كتابٌ أو خطابٌ من هذه المفردات التي تكشف عن طوايا نفسٍ حركيّةٍ منفتحةٍ على الآخر... «هنا» و«هناك».

في المرحلة الثّانية، ومنذ السنوات الأولى لصدورها، كانت «الوسط» تهتمّ بنشر نُبَذٍ من أفكاره وأخباره ولقاءاته، حيث كان يستقبل في دارته المسؤولين والوزراء ومندوبي الأمم المتّحدة، وسفراء وسفيرات الدّول والوفود الشّعبيّة، فضلاً عن ممثّلي مؤسّسات المجتمع المدني العرب والأجانب، والصحافيّين والمفكّرين، كان آخرهم الأميركيّ الشّهير نعوم تشومسكي.

كان لقاءً بين قطبين كبيرين في 27 مايو/ أيّار الماضي، في ظلّ أجواء إقليميّة مشحونة، فحذّر تشومسكي من احتمال أن تلجأ «إسرائيل» إلى الحرب والعدوان مجدَّداً إذا ما شعرت بأنها محاصرة، بسبب عقليّة الجنون التي تتحكّم بقادتها، فردّ عليه فضل الله: «إنّ هذا الجنون لن يدفع كيان العدوّ إلا إلى الانتحار، فبحوزة المقاومة من الخبرات والإمكانات والاستعداد والخطط الاستراتيجيّة، ما قد يقلب الطّاولة على رأس هذا الكيان، أو إرباك الواقع الصّهيونيّ وخلق مشاكل كبرى له». وقدّر ما يقدّمه تشومسكي من رؤيةٍ نقديّةٍ تؤكّد بناء عالمٍ جديدٍ يحمل عمق القيم، ويبتعد عن التوحّش والمنفعة، مؤملاً أن تخرج أميركا من العقليّة الظلاميّة التي تعيشها، إلى رحاب السياسة الإنسانيّة المنفتحة على قضايا الشّعوب.

كان يعلن مواقفه السياسيّة في خطبه كلّ جمعة، حيث تعتبر بوصلةً لتحديد الاتجاه، في وضعٍ مضطربٍ لعب فيه الكثيرون على حبل المذهبيّة السياسيّة، والرّهان على الخلافات الطائفيّة لتعميق الخلافات بين المسلمين وشقّ الصّفوف. وكان يدرك أنّ اللاعب الأوّل هو الطّرف الأميركيّ الذي أعدّ مشروعاً يمينيّاً متطرّفاً، كان كفيلاً بإغراق منطقة الشّرق الأوسط في الظلام لعقودٍ طويلةٍ مقبلة. وكان موقفه واضحاً في دعم بؤر المقاومة التي تصدّت لإسقاط هذا المشروع.

العقد الأخير كان حافلاً بالكثير من الأنفاق المظلمة، حيث تنعدم الرؤية لكثافة الضّباب، وكان يرفع الشّعلة للمدلجين. بعض المتعاونين مع المشروع الأميركيّ تولّى تخويف السنّة من «هلال شيعيّ» سيبتلع العالم الإسلاميّ، تغطيةً على الخطر الصّهيونيّ الذي أغرق المنطقة في حروبٍ متواليةٍ منذ ستّين عاماً، مسلّحاً بالسّلاح النوويّ منذ الستّينات. ومن أسفٍ أن انطلت الحيلة على قياداتٍ إسلاميّةٍ كبيرة، فانجرفت مع تيّار العاطفة. وكان حريّاً بابن طائفةٍ مضطَهَدةٍ، في بلدٍ صغيرٍ يعيش تحت التّهديد، أن يستشعر الخوف من الابتلاع، وليس ابن المحيط السنيّ الكبير.

كان بوصلةً سياسيّةً يُرجع إليه حين تدلهمّ الأمور. لم يتورّط في المخاوف الوهميّة باكتساح مذهبٍ لمذهبٍ آخر، ولم يغيّر حربه من «إسرائيل» إلى غيرها. اضطجع أمس في مثواه الأخير... وانطفأ السّراج.