فقيه الحريّة... وشجرة العائلة! - زاهي وهبي

ليست السماحة مجرّد صفةٍ من صفات السيّد محمد حسين فضل الله، ولا مجرّد لقبٍ تقليديّ يسبق اسم «رجل الدّين» كما جرت العادة؛ إنها ذاك النّور البهيّ المشعّ في المحيّا انطلاقاً من القلب العاشق والعقل المتنوّر المنير، وهي أيضاً السّلوك السّمح والفكر الرّحب المنفتح على الآخر، المتقبّل له كما هو، لا كما نريده على صورتنا ومثالنا!

كذلك حال المرجعيّة مع العلامة العلم؛ ليست تشريفاً بمقدار ما هي تكليف. استحقّها «السيّد» بالعلم والثقافة والمعرفة وسعة الإدراك وشجاعة الخروج على السّائد و«الإجماع»، وطرح الجديد المجدّد بلا خوفٍ أو وجلٍ، مهما تكاثرت السهام وتكسّرت النّصال على النّصال.

عاشَ السيِّد فضل الله حياته بين حدَّي النّضال والنّصال؛ النّضال النّاصع النّبيل ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ وكلّ من يقف خلفه، فكان بحقّ رائداً لمقاومةٍ جادّةٍ وجدّيّةٍ أثمرت تضحياتها تحريراً ونصراً وإسقاطاً لاتّفاقيّات ذلّ وعار، وطرداً لاحتلالٍ متعدّد الجنسيّات في مطلع الثّمانينات من القرن الماضي. أمّا النّصال، فكانت أحياناً أشدّ مضاضةً لأنها من «ذوي القربى»، لكنّ سماحته لم يكن يخشى في الفقه والتّجديد لومة لائمٍ، حتى لو كان من «أهل البيت»، ولعلّ المتابعين لمسيرته منذ البدايات الأولى، يذكرون مناقشاته ومعارضاته الفقهيّة حتى لبعض آراء والده العلامة السيّد عبد الرّؤوف فضل الله، أو لآخرين من الأرومة نفسها.

كثيرة هي الرّوافد التي تتفرّع من نهره، وكلّ منها تحتاج السّباحة فيه مهارةً ولياقةً فكريّةً ونقديّةً. فما أحدثه من تجدّد وتجديد في الفقه الإسلاميّ المعاصر واضح وجليّ، وهل من داعٍ للتّذكير بكثيرٍ من فتاويه المتّصلة بالواقع المذهبيّ في السّاحة الإسلاميّة، أو بالنّظرة إلى الآخر غير المسلم، أو بعلاقة المرأة والرّجل، أو تلك المتّصلة بحياة النّاس اليوميّة، مثل مخالفات السّير وسواها، بحيث كان يكشف عن رؤيةٍ موسوعيّةٍ شاملةٍ لا تترفّع عن الاهتمام بأدقّ الأمور وأقلّها شأناً في نظر بعض النّخبويّين، ولا يغيب عن البال انفتاحه الحرّ على الآداب والفنون، ونأيه عن ذهنيّة التّحريم في مقاربة الكثير من أشكال التّعبير الفنّي، حتى باتت آراؤه الفقهيّة مرجعاً وسنداً لجيلٍ شابٍّ جديدٍ باحثٍ عن «إيمانٍ» لا يضعه في مواجهة الحياة، بل يُسعفه على هذه الحياة ويحثّه على الانخراط فيها بلا عقدٍ ولا أفكارٍ متحجّرةٍ منغلقةٍ توصد الأبواب على نفسها وعلى الباحثين ـ في الإيمان ـ عن مساحة حريّةٍ لا عن قيدٍ آخر يضاف إلى سلسلة القيود التي تكبّل أعمارنا وحياتنا. إنّه بلا مبالغة، المثال الحيّ، والنّموذج الأمثل لمعاصرةٍ مؤمنةٍ تجد لنفسها موقعاً في صلب العصر حتى وهي تناضل وتقاوم الكثير من إفرازاته وشوائبه.

... إلى الإرث المؤسّساتي الكبير الذي تحوّل مع فضل الله من صدقات وحسنات إلى صروح تعليميّة وتربويّة شاهقة، يظلّ إرثه الفقهيّ السند المتين والحجّة الدامغة لكلّ متطلّع نحو رحابة واسعة اتّساع الله نفسه، وحريّة هي حقّ كلّ مؤمن من الشّكّ والسّؤال ومنازلة اليقين ولو من باب اليقين نفسه وبعدّته وأدواته. فهذا العارف العرفاني، لم يرَ في الله صنماً جديداً، ولم يرض أن يكون واحداً من فقهاء الظّلام والتّكفير، بل رفع لواء التّفكير في زمن التّكفير، ورأى الله نوراً على نور، وحريّة تتمادى في الحريّة. وهل من فضاء للنّور أرحب وأوسع من الحريّة نفسها؟ فهل كثير عليه أن نصفه أيضاً بأنّه فقيه نور وحرية؟!

الآن، إذ يرحل السيّد الجسد، ويظلّ السيّد الفكر والفقه والمواقف الإنسانيّة المخضرّة اخضرار النّسب الشّريف، يغدو التّعاطي مع تركته الفقهيّة والفكريّة أكثر نزاهةً وموضوعيّةً، إذ لا يعود مرتبطاً بحضوره «المادّيّ»، بل يمسي هذا الحضور مجرّداً مطلقاً متحرّراً من اعتباراتٍ كثيرة، فيسهل حينها التّعامل مع الفقه لا مع الفقيه، مع الفكر لا مع المفكّر، مع الجديد لا مع المجدّد. إنها التركة النفسيّة وحيدة عارية الآن بلا صراعات المراجع والمرجعيّات. فهل نغرف منها ما يسعفنا على مصالحة إسلامنا مع العصر، من دون التخلّي عن حقّنا في نقد هذا «العصر» ومشاكسته والاعتراض عليه حين تقتضي الضّرورة؛ نقد العصر من داخل العصر، لا من كهوف عصور سالفة؟!

العرفاني العارف الحامل اسم الله في شجرة عائلته، يصلح شعره مثل فكره، معراجاً إلى الله. ففي قصائد السيّد فضل الله، فيض حبٍّ وعشقٍ وسفرٍ نحو تجلّياتٍ نورانيّة، وشجاعة مضمونيّة في قالبٍ كلاسيكيّ لم يجعل صاحبه رافضاً أو شاجباً لقوالب شعريّة جديدة ومحدثة، بل على العكس تماماً، ظلّ منفتحاً متابعاً ومعجباً أحياناً، ولطالما أتى في حواراتي معه على ذكرٍ مصحوبٍ بالمودّة لشعراء مثل: محمود درويش، شوقي أبي شقرا، أنسي الحاج، أدونيس... ناظراً إلى تجاربهم بعين القارئ والشّاعر في آن، وبعقل العالم العارف أنّ سُنّة الحياة دائماً إلى أمام.

تدخل إلى عالم السيّد فضل الله مسبوقاً بالحبّ والفضول والنّهم المعرفيّ، فتقودك أفكاره بيسرٍ وسلاسةٍ من دوحةٍ إلى دوحة، تجول معه وتصول من دون أن تصاب بدوّار أو دوخة، رغم كثرة الأبواب المؤدّية إلى أبواب، والعوالم المنفتحة على عوالم، وطبقات المعرفة المتراكمة فوق طبقات، ذلك أنّ متعة الكشف تزيح عنك التّعب والمشقّة، وترفعك إلى مصافّ من الأنس والذّوبان معاً.

تشاء مصادفات النّسب الجميلة أن يكون لي غصنٌ أخضر من شجرة العائلة «الفضل إلهيّة»، غصن حطّت عليه في أحاديث أمّي وذكرياتها وأشواقها طيور الوجد والأشواق والمعرفة، فكان سماحته دائم الحضور في كلّ مفاصل حياتي، طفلاً وفتى مراهقاً وشابّاً ورجلاً وإعلاميّاً وشاعراً، وحتى في لحظة القران بالحبيبة.

هو صديق والدي زمن البدايات الشيّقة الشاقّة في النّبعة وأخواتها من أحياء الإهمال والحرمان، وسند والدتي وهي تغالب دهرها ومن معه عليها، شأنه في ذلك دائم الانحياز إلى المرأة ومظلوميّتها في مجتمعٍ ذكــوريّ حتى لدى «أهل البيت» الواحد. وهل يمكن نسيان فتواه الشّهيرة المثيرة للجدل بحقّ المرأة في ضرب زوجها إذا ضربها؟ ولا أغالي حين أقول إنّه لولا فضل الله، لما كان البيت المرجعيّ على ما هو عليه الآن من ضياءٍ ورحابةٍ تتّسع لما، ولمن هو أبعد من المذهب والطّائفة والدّين والفكر والعقيدة، لتكون رحابة إنسانيّة حقيقيّة وحقّة.

يبحث المثقّف عن علاقةٍ حرّةٍ بربّه ودينه ودنياه، وبفكره وحبره وشعره ونثره، إذ تغدو المرجعيّات في مثل هذه الحالات حاجباً وحجاباً لا يمكن لإبداعٍ أن يستقيم معهما، إلا أنّها في حالة فضل الله تهدم الحاجب وترفع الحجاب وتمسي باباً من أبواب الحرّيّة المفضي إلى مزيدٍ من الإبداع والنّور.

ختاماً، ليأذن لي قارئي بعبارة جدّ شخصيّة: أن تحبّ فضل الله تلك مسألة عاديّة إن لم أقل بديهيّة، أمّا أن يحبّك فضل الله بشهادة أهله وتلامذته وعارفيه الأقربين، فتلك نعمة أُعطيتها وعساني أستحقّها.