سيّدي... يا عدوّ الرّاحة - هاني عبدالله

من أين يمكن يا سيّدي أن أستعيد شريط الذّكرى؟ من "أسلوبٍ للدّعوة" صغته بدم السّيرة العطرة وبحبر المعاناة قبل أن تصوغه بحبر المحابر...

أم من "خطواتٍ على طريق الإسلام".. خطوتها عملاً وحركةً وجهاداً قبل أن تنسجها بدم الأقلام عصارة التّجارب وموعظة الأيّام...

أم من "حوارٍ في القرآن" أضأت حروفه على ضوء الشّمعة هناك في "النّبعة"، في ليل الحرب اللّبنانيّة الدّامس، لتقدّم إلى اللّبنانيّين والبشريّة نموذجاً آخر في الشخصيّة التي لا تكون بنتاً لبيئتها، بل الّتي تصنع بيئتها، فتصوغ للجميع عالماً "يضجّ" بالحوار، بدلاً من أن تتجاذبه قذائف الحرب وسجالات القتل والعنف؟!

من أين يمكن الإحاطة بك سيّدي؟

من مئتي مؤلّفٍ وكتابٍ صغتها بدمك وعرقك وسيرتك، قبل أن تنثرها كتباً بين يدي القارئ، وصحفاً تترى في صقيع الأيّام وجليد المذاهب؟!

وكيف يمكن يا أبا الجميع أن نطلّ على تراثك الضَّخم، والكلّ يشهد أنَّه من "نتاجك"... والكلّ يعرف أنّك تختفي خلف كلّ كلمةٍ ينطق بها، أو فكرةٍ يستهدي بها فكرَك ويستلهم فيها من وحيك، أو كلّ أسلوبٍ "أنشأته" روحاً وموعظةً في ربيع الأجيال المتعاقبة؟!

أشهد يا سيّدي أنك سرٌّ من الأسرار.. في جهدك الّذي لا حياة فيه للتّعب، ونشاطك الّذي لا مجال فيه للرّاحة، وعطائك الّذي لا يعترف بالحدود... حدود السّاعات والأيّام والسّنين... والأزمنة...

وأقسم سيِّدي أنّك خصم الرَّاحة الأوَّل.. تماماً كما أنت العدوّ المثاليّ لكلّ أولئك الّذين تجرّؤوا على قامة عطائك، وحاولوا النّيل من الاسم والجسم، ولم يستمعوا إلى نغمات الوعي في كلماتك، ولم ينهلوا من معين عذبها الصّافي، ليعرفوا أنّ "الحياة لا تحتمل الحقد".

لا زلت أستمع إليك سيّدي... ولا زالت كلماتك تجوب عقلي ووجداني، وأنت تجيب جيوش المحبّين الّذين يقصدون دارك المفتوح سائلين ومستجدين: لماذا لا ترتاح؟ وأنت تجيبهم: "الرّاحة حرامٌ علينا وعلى أمثالنا"...

ولا زال صدى ذلك الصّوت يتردّد في مسامعي للسّائلين عن سرّ هذه الطّاقة في جسدٍ تمرّد على "لهاث الستّين" و"دروب السّبعين"، فأعيا الأقربين والأبعدين. لقد قال الإمام الصّادق(ع): "ما ضعف بدنٌ عمّا قويت عليه النيّة"، ليردّد البعض معترفاً:

وإذا كانت النّفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام

ولا زالت تلك الكلمات ـ المواقف تحفر في وجداني، وأنت تستحضر شعراً لأحمد الصّافي النجفي، عندما سئلت عن سرّ هذا الانتصار على سنيّ العمر المتطاولة:

عمـري بروحي لا بعـدد سنينـي فلأسخرنّ غداً من التّسعين

عمري إلى السّبعين يركض مسرعاً والرّوح باقية على العشرين

أشهد يا سيّدي أنّني منذ وفّقت لأكون بين يدي خدمتك قبل حوالى ربع قرن، أنك لم ترتح يوماً، ولم تأخذ قسطاً من الرّاحة التي ينشدها الجميع...

وأشهد يا سيّدي بعد كلّ تلك السنين الذهبيّة التي أتشرّف بالانتماء إلى مدرستها، أنّنا قرأناك في الكتاب الخطأ، فلطالما حاولنا أن نفهمك من خلال ما يمكن لأجسادنا أن تتحمّل من مشقّة وجهد... ولم نعرف أنّنا أمام جسدٍ من نوعٍ آخر، وأمام جسدٍ فيه ما فيه من طينة رسول الله(ص) وحركة عليّ(ع) وروح الأئمّة الأطهار من آل محمّد(ص)...

سيّدي، أنا ما زلت أستمع إليك... تتلو عليّ وعلى أمثالي كلماتٍ وعظاتٍ هي من "عصير العمر"... لا بل هي عصارة الأيّام في خلاصة تجارب لا حدّ لها ولا حصر، وفي أصالة حركةٍ لم أقع على شيءٍ يشابهها في تجارب الآخرين...

وها أنا ذا أحاول استعادة كلماتك، عندما حدّثتني قبل حوالى الأربعين يوماً عن خاطرةٍ عنّت لك في اللّيل فنسجتها شعراً:

أنا حسبي إن تغشّاني الدّجى في ظلام اللّيل آهات جروحي

فالتفاتات حياتي فكــرةٌ سوف تبقى حلماً فوق ضريحي

سيّدي، أنت سرّ في كلّ هذا العطاء المتنوّع، وهذا الصّدق الّذي لا حدود له في السّياسة وغيرها، وقد تساءل الكثيرون: كيف تستطيع أن تبقى على التزاماتك وثوابتك فيما تشيد كلّ جسور الحوار مع الآخرين... وأنت سرّ في هذه اللّمسة الحانية على كلّ النّاس، وفي نقطة الضّعف والقوّة، في هذا الحبّ الكبير للفقراء الّذين آثرت أن تكون بينهم وفي حصن مسجدهم حتّى بعد الرّحيل... وأنت سرّ في هذا السّلام الرّوحيّ الّذي يفيض رحمةً حتّى على أولئك "المعتدين"... وسرّ في كلّ هذه المناجاة "الحانية" التي صغتها شعراً رساليّاً وأدباً وجدانيّاً يفيض دعاءً وصلوات... وسرّ في الكثير الكثير ممّا قيل وممّا لم يقل، ولا زلنا نطوف من حول هذا السرّ، ونقرأ في كتاب حياتك وعمرك المكدود، لنفهم ونعي ونعمل، وأنّى لنا ذلك!...

علوٌّ في الحياة وفي الممات بحقّ أنت إحدى المعجزاتِ