شرح نهج البلاغة - الخطبة الرابعة - القسم الأول

- الخطبة الرابعة في نهج البلاغة عنونها الشريف الرضي بهذا العنوان (ومن خطبة له [ع] وهي من أفصح كلامه [ع]، وفيها يعظ الناس ويهديهم من ضلالتهم، ويقال: إنه خطبها بعد قتل طلحة والزبير).
- رويت هذه الخطبة في بعض المصادر، والواقع أنها مقاطع من خطبة له (ع)، أشار إليها السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب في ج1 من كتابه (مصادر نهج البلاغة)، والسيد صادق الموسوي في المجلد 4 من (تمام نهج البلاغة). وقد روى هذا المقطع المفيد في (الإرشاد) باختلاف يسير في اللفظ، وروى آخرها الطبري في كتاب (المسترشد).
- هذه المقاطع المجموعة في الخطبة الرابعة من نهج البلاغة جزء من خطبة أطول، وبحسب ما ورد في (تمام نهج البلاغة)، فإن بعضاً آخر من هذه الخطبة الطويلة مبثوث في نهج البلاغة.
- أما ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة فقد أكّد على مسألة اجتزاء هذه الخطبة، ولكنه اعتبر أن بعض ما روي في تتماتها لا يصح أن يكون من كلام عليٍّ (ع)، قال: (هذه الكلمات والأمثال ملتقطة من خطبة طويلة، منسوبة إليه عليه السلام، قد زاد فيها قوم أشياء حملتهم عليها أهواؤهم) وفيها كلام شديد على بعض الخلفاء (لا توافق ألفاظُها طريقتَه عليه السلام في الخطب، ولا تُناسب فصاحتُها فصاحتَه، ولا حاجة إلى ذكرها، فهي شهيرة. ونحن نشرح هذه الألفاظ) أي المروية في النهج لا في الخطبة الطويلة (لأنها كلامه عليه السلام، لا يشك في ذلك مَن له ذوق ونقد ومعرفة بمذاهب الخطباء والفصحاء في خطبهم ورسائلهم، ولأن الرواية لها كثيرة، ولأن الرضى رحمة الله تعالى عليه قد التقطها ونسبها إليه عليه السلام، وصحّحها وحذف ما عداها).
- أما ما جاء في الخطبة الرابعة من نهج البلاغة فكالتالي:
- (بِنَا اهْتَدَيْتُمْ في الظَّلْمَاءِ) كناية عن الجهل والشرك والضلالة، والإشارة هنا في قوله [بنا]، وفي موارد أخرى من نهج البلاغة إشارة للنبي ولآله، ويخصّ نفسه منهم في المقام الأول لا استكباراً وترفّعاً -حاشاه- بل إحقاقاً للحق ووضعاً للأمور في نصابها خاصة وأن نسبة كبيرة من المخاطَبين لم يحضروا عصر النبي، فهو يذكّرهم بهذه الحقيقة كي يلتزموا بوصية رسول الله بالتمسك بالثقل الثاني، والأخذ بولايته القيادية.
- (وَتَسَنَّمْتُمُ العلْيَاءَ) تسنّمتم: ركبتم السنام، وارتقيتم المعالي، بعد أن كان العرب متقاتلين متشرذمين متخلّفين عن ركب الحضارة، محتلّةً ديارُهم، أو خاضعةً للآخَرين، لا يملكون الكثير، وقد تفشّت فيهم الأمّيّة.
- (وبِنَا انْفَجَرْتُم عَنِ السِّرَارِ) الانفجار: ظهور الفجر. والسرار: الليلة التي يكون فيها القمر مُحاقاً، فتكون شديدة الظلمة. والمعنى: قبل أن تهتدوا للإسلام من خلال الجهود والتضحيات التي بذلناها في هذا الطريق، لقد كنتم في ظلام شديد، لقد كان ذلك العهد بمثابة الليلة التي يكون القمر فيها محاقاً، فلا يكاد الإنسان يهتدي لشيء، ولكن جاء فجر الإسلام على أيدينا، وبإسلامِكم انتقلتم من تلك الظلمة الشديدة والضلالة والجهل، وأبصرتم طريق الهداية، وتجاوزتم ظلمة الضياع.
- (وُقِرَ سَمْعٌ لَمْ يَفْقَهِ الوَاعِيَةَ، كَيْفَ يُرَاعِي النَّبْأَةَ مَنْ أَصَمَّتْهُ الصَّيْحَةُ؟) الوَقْر: الثقل في السمع والصمم. والواعية: الصراخ أو الصارخ. النبأة: الصوت الخفي.
- وهذا دعاء بالثقل والصمم على السمع الذي لم يَفْقَهِ المواعظ والعِبر الواضحة والشديدة التأثير في نفسِها. وإذا كان الإنسان لا يتأثّر بمثلها، فكيف يتوقَّع منه أن يتأثّر بما هو أقل منها بمراتب. وشبّه ذلك بمن أصمّته الصيحة القوية، فإنه محال أن يراعى بعد ذلك الصوت الضعيف.
- (رُبِطَ جَنَانٌ لَمْ يُفَارِقْهُ الخَفَقَانُ) الجَنان: القلب. الربط: الشد.
- في مقابل ذلك الدعاء على الذي خُتم على قلبه فلا يتأثّر بأشد المواعظ والعِبر، دعاء لمن كان لديه قلب حساس مرهف، تهزّه أدنى المواعظ والعِبر، لأنه يعيش الخوف الدائم من ارتكاب ما يجلب غضبَ الله عليه، ويسعى دائماً للالتزام بأمر الله ونهيه. دعاءٌ بأن يشد الله على قلب هذا الإنسان، ويزيده تقوى وهدى وصلاح.