نظام الفزعة في الثقافة العربية - د.منصور القطري. بتصرف

تماهياً مع ظاهرة الكسل الفكري يعتقد الكثير ان لفظ (الفزعة) من الألفاظ الشعبية، لكن العلامة ابن منظور في لسان العرب يقول: ان لفظ فزِع الى القوم: استغاثهم.وفزِع القوم وفزعهم فزْعاً وأفْزعهم: أغاثهم.وفزِع اليه: لجأ، فهو مفْزعٌ لمن فزِع اليه أي ملْجأٌ لمن التجأ اليه.
وفي موروثنا الديني والأخلاقي مفاضلة لبعض الأعمال، على سبيل المثال الاعتكاف، له في الاسلام فضل عظيم وأجر كبير، كيف لا وقد فرغ المسلم لربه وانقطع عن ملذات الدنيا.لكن من يقضي حوائج الناس ويغيث الملهوف أجره أعظم من المعتكف.قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (من مشى في حاجة أخيه كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين).وقصة نبي الله موسى عليه السلام في القرآن تقدم أنموذجاً رائعاً لأصحاب النجدة والمروءة الذين لا تسمح لهم شيمهم بالتفرج والتردد في العون والمساعدة، فعندما فر موسى عليه السلام هارباً من بطش فرعون ثم ورد ماء مدين فوجد الناس يسقون ووجد امرأتين قد تنحيتا جانباً تنتظران ان يفرغ الرجال حتى تسقيا، فلما عرف حاجتهما لم ينتظر منهما طلب المعونة والمساعدة وهو (الشهم الكريم) بل بادر وسقى لهما.
وذات يوم رجع الامام علي عليه السلام الى داره في وقت القيظ فاذا امرأة قائمة تقول: ان زوجي ظلمني وأخافني وتعدى علي وحلف ليضربني.فقال: يا أمة الله اصبري حتى يبرد النهار ثم أذهب معك ان شاء الله.فقالت: اذن يشتد غضبه علي.فطأطأ رأسه ثم رفعه وهو يقول: لا والله أو يؤخذ للضعيف حقه غير متعتع!! وانطلق معها.
ونظراً لعدم اكتمال دائرة النضج بين الأخلاقي والتاريخي في قضية الفزعة، خصوصاً اذا عرفنا ان هناك قضايا عالقة كقضية اللاجئين العرب والهجرة، لذا فلن أتحدث عن ساحة الألم الإنساني (غزة) كما انني لن أتحدث عن هجرة 5000 آلاف طبيب عربي سنوياً، بالاضافه الى 70 ألف متخرج.وقد تبدو السطور حزينة اذا قلت انه يوجد ما يزيد عن مليون (PHD) من أصل عربي بأوروبا وأمريكا، ناهيك عن الحديث حول هجرة شباب المغرب العربي في ما يعرف ب (قوارب الموت).
تاريخياً وبعد ان فشلت قريش في استرداد المهاجرين المسلمين من الحبشة عقدت اجتماعاً واعتمدت أسلوباً جديداً في مواجهة المسلمين وهو (المقاطعه) لبني هاشم وبني عبد المطلب.استمرت المعاناة والناس تتفرج على معاناة بني جلدتهم وطالت أيام الحصار واشتد الأذى بالمحاصرين في شعب أبي طالب واستمرت المقاطعة قرابة ثلاث سنوات، حتى ان المطعم بن عدي ذات يوم وقف بقريش وقال: (انكم فعلتم بمحمد ما فعلتم، فكونوا أكف الناس عنه) ولم يغمض لهذا الرجل جفن فعمد الى التفكير في طريقة لرفع المعاناة فبادر الى اقناع بعض رجالات قريش بضرورة نقض الوثيقة وتمزيقها.وأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام بتمزيق الصحيفة (هذه النخبة لم تنتظر قرارات هيئة الأمم ولا رأي مجلس الأمن)، وعند الموعد لبس (المطعم) ورفاقه السلاح واتجهوا الى الشعب وخرج بنو هاشم وبنو المطلب الى مساكنهم، ولم يسع قريش ان تفعل شيئاً أمام عزيمة نخبة من الرجال.
نعم باب التغيير مرتع خصب وكبير وثماره أكبر وأعظم، وكبار النفوس لا ترتضي المكوث في موقعها تتراكم عليها أغبرة الزمن لا تحرك ساكناً لدفع ركام التخاذل والصمت.فلو كان (المطعم بن عدي) اليوم بيننا لمزّق العديد من صحف المقاطعة التي تمارس بخفاء في واقعنا، ولنبذ ذلك الاعتراك الجانبي والتحزبات الذي تعيشه فئات عديدة في مجتمعاتنا.اليوم تهتز المفاهيم وتتبدل صورة (الفزعة) كنموذج مشرف في ثقافتنا وتستبدل لنصرة شيخ القبيلة ورموز السلطة حتى وان كان ظالماً، فتنتصر للظالم وتتجاهل المظلوم، لأن النخوة في هذه المرحلة تقوم على الانفعال لا على العقل والضمير الإنساني الأصيل.