الحديث الصحيح بين الظن واليقين - الشيخ علي حسن


النظرية التي سأستعرضها في هذه المقالة، أسسها بعض علمائنا المتقدمين ويوافق عليها كثير من المعاصرين، ولها نتائج فكرية وعملية مهمة، ولكنها بحاجة الى مقدمة.

أقسام الحديث

يمكن تقسيم الأحاديث والروايات المروية عن النبي وآله عليه السلام ببساطة الى ثلاثة أقسام:
-1 حديث ضعيف: من قبيل الخبر الذي لا سند له ولا مؤيد لصحته. ومثل هذا الخبر ليس بحجة، أي لا يُلزم به الشخص ولا يحاسب على مخالفته.
-2 حديث معتبر يقيني: من قبيل الحديث المتواتر، أي الحديث الذي بلغ رواته في كل طبقة عدداً يصل معه الإنسان الى اليقين بأنه صادر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عن أحد الأئمة عليهم السلام. ومثاله حديث الغدير الذي رواه 110 من الصحابة و84 من التابعين، ثم رواه عدد كبير من العلماء والمحدثين في القرون المتلاحقة. وهذا النوع من الأحاديث حجة بلا خلاف، إلا أنها قليلة جداً مقارنة بالباقي.
-3 حديث معتبر غير يقيني: من قبيل خبر الواحد (الآحاد) الصحيح سنداً أوالموثق. وهذا النوع من الأخبار يعتبر ظنياً لا يقينياً، لاحتمال خطأ الراوي فيما رواه عن النبي أو الامام، ولاحتمال الدس أو التحريف أو غير ذلك من العوامل التي تجعلنا نحتمل عدم صدور النص من مصدره.

حجية القسم الثالث

وقد بحث العلماء في مدى حجية الأحاديث من القسم الثالث، أي الأحاديث المعتبرة الظنية، والتي تمثل الغالبية العظمى من الأحاديث المعتبرة، وقد توصلوا الى ان أدلة عديدة خاصة تؤكد صحة العمل بالأحاديث المعتبرة الظنية في مجال الأحكام الشرعية (الفقه) وما يتعلق بها من آداب، وأما ما عدا ذلك من مجالات كالعقائد والتاريخ والتكوينيات (من قبيل كيف تكونت الأرض، وكيف خُلق الحيوان، وعدد الكواكب) وغيرها فلا حجية لها لأنها تبقى من الظن، والله تعالى يقول: {وما يتّبِعُ أكْثرُهُمْ الّا ظنًّا ان الظّنّ لا يُغْنِي مِن الْحقِّ شيْئًا} (يونس: 36) {وما لهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ ان يتّبِعُون الّا الظّنّ وانّ الظّنّ لا يُغْنِي مِن الْحقِّ شيْئاً} (النجم: 28).
قال السيد المرتضى (ت 436هـ) وهو يتحدث عن بعض من اعتمد على الروايات المعتبرة الظنية في تكوين العقيدة: (ألا ترى ان هؤلاء بأعيانهم قد يحتجون في أصول الدين من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة بأخبار الآحاد، ومعلوم عند كل عاقل أنها ليست بحجة في ذلك).

نظرية العلامة الطباطبائي

استمر العلماء بعد السيد المرتضى رحمه الله في التأكيد على هذه النظرية، حتى القرن الثامن الهجري، حيث بدأت تظهر بعض الآراء الجديدة والتفصيلات في المسألة. إلا ان من بين تلك النظريات تبرز نظرية السيد محمد حسين الطباطبائي صاحب تفسير الميزان (ت 1981)، وهي مهمة من حيث تأكيدها على نظرية السيد المرتضى، ومن حيث نتائجها العملية والتي سأذكرها في نهاية البحث.
وخلاصة نظريته أنه يرفض بشدة الأخذ بخبر الواحد مادام ظنياً، سواء في العقائد أوالتفسير أو غير ذلك من المجالات، بخلاف الفقه وما يتصل به، سواء أكان الحديث تام السند أم ضعيفاً.
قال في تفسير الميزان: (لا نعوّل على الآحاد في غير الأحكام الفرعية) وقال أيضاً: (اتضح في علم الأصول اتضاحاً يتلو البداهة ألا معنى لحجية أخبار الآحاد في غير الأحكام كالمعارف الاعتقادية والموضوعات الخارجية). وقال: (إن روايات التفسير اذا كانت آحاداً فلا حجية لها، إلا ما وافق مضامين الآيات، والحجية محصورة في الشرعيات، فروايات القصص والتفسير الآحادية غير حجة شرعاً، أما الحجية العقلائية فلا مسرح لها بعد توافر الدس والجعل في أخبار التفسير والقصص إلا ما تقوم القرائن القطعية…. على صحة متنه). ومن القرائن القطعية التي تؤكد صحة متن الحديث هو الموافقة لظواهر الآيات القرآنية.

هل نرفض تلك الأحاديث؟

ولكن هذا المنهج يطرح تساؤلاً مهماً وحساساً: كيف نتعامل اذاً مع هذا الكم من الروايات المعتبرة الظنية في غير الأحكام الشرعية وهي كثيرة جداً؟ وقد أجاب رحمه الله على ذلك بقوله: (أما الكتاب والسنة القطعية فنأخذ بهما لزاماً، وأما الخبر المخالف لهما فنطرحه لزوماً، أما غير ذلك فلا دليل على قبوله أو رده، لكن ذلك لا يوجب طرحه حتى لو كان فاسد السند، ما لم يخالف العقل أو النقل الصريح). وهذا يعني ان ما كان من القسم الثالث فنحن غير ملزمين به، ولا نُحاسب على مخالفته، ولو اقتنع به الانسان فهذا شأنه.

القرآن أولاً

ثم استنتج العلامة الطباطبائي أمراً آخر مما سبق، حيث خطّأ مسلك كثير من العلماء حين يجعلون الخبر الظني مقدّماً على الآيات القرآنية ويؤولون الآيات على أساس ذلك. قال: (أما ترك البحث عن موافقة الكتاب، والتوغل في البحث عن حال السند إلا ما كان للتوسل الى تحصيل القرائن ثم الحكم باعتبار الرواية بصحة سندها، ثم تحميل ما يدل عليه متن الرواية على الكتاب، واتخاذه تبعاً لذلك، كما هو دأب كثير منهم، فمما لا سبيل إليه من جهة الدليل).

النتائج العملية

ويترتب على نظرية العلامة الطباطبائي وأكثر من سبقه كالسيد المرتضى عدة أمور عملية ومفيدة جداً، نلخصها كالتالي:
-1 ضرورة الدقة في الأخذ بما يطرح على أنه من مسلمات العقيدة كتفاصيل ما يجري في عالم البرزخ ومجريات يوم الحساب وقصص الجن والملائكة والأنبياء السابقين وأسباب نزول الآيات والقضايا الصحية والكونية وغيرها.
-2 فتح باب الأعذار لمن لم يقتنع ببعض تفاصيل ما يُطرح على أنه من العقيدة عندما لا يكون بأيدينا دليل يقيني، بل روايات آحاد ظنية تحتمل الصحة والخطأ، وبالتالي وقف التراشق بالتهم بين الأفراد والجماعات، وذلك من قبيل تحديد دائرة العصمة اتساعاً وتضييقاً، والاعتقاد بالولاية التكوينية للأنبياء والأولياء.
-3 الأصل في تكوين معارفنا هو ظواهر القرآن الكريم ومن خلالها نقيّم الأحاديث بما فيها الأحاديث الصحيحة لا العكس.