الخصخصة والتوقيت الخاطئ - مقال للشيخ علي حسن


تحدث القرآن الكريم عن هاجس سيطرة أفراد معدودين على مقدّرات المجتمع وثرواته، وذلك في معرض الحديث عن مصرف الفيء حيث قال سبحانه: {مّا أفاء اللهُ علىٰ رسُولِهِ مِنْ أهْلِ الْقُرىٰ فلِلّهِ ولِلرّسُولِ ولِذِي الْقُرْبىٰ والْيتامىٰ والْمساكِينِ وابْنِ السّبِيلِ كيْ لا يكُون دُولةً بيْن الْأغْنِياءِ مِنكُمْ وما آتاكُمُ الرّسُولُ فخُذُوهُ وما نهاكُمْ عنْهُ فانتهُوا واتّقُوا اللّه ان الله شدِيدُ الْعِقابِ} (الحشر: 7).

اقتصادنا

وقد أشار الشهيد السيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه في كتابه (اقتصادنا) الى هذه النقطة باعتبار ان من مسؤوليات الدولة في اطار الضمان الاجتماعي سن القوانين والمراقبة والمحاسبة لكيلا تهيمن بعض الأطراف على كل شيء في البلد وتتحكم في كل المفاصل الاقتصادية وبالتالي في مصائر الناس.
وهذا حقيقة هو أكثر ما يقلق المواطن اليوم في ظل تداول موضوع الخصخصة، وذلك بأن تتحول الكويت الى كعكة تُقتسم بين البعض الى درجة لا تضمن الدولة نفسها فضلاً عن الناس ما تريده من خدمات تقدمها الشركات التي ستتملك تلك القطاعات. ولابد من التأكيد على أن في الخصخصة ايجابيات بشرط ان تطبق بصورتها الصحيحة وفي الظرف المناسب.

قانون كويتام

وليس هذا بالأمر المستبعد، وقد عايشت الولايات المتحدة حالة مشابهة قبل أكثر من قرن، إلا أنها سرعان ما تحرّكت في الاتجاه الذي ضمن لها عدم تحوّل الخصخصة الى وبال على الحكومة والمواطن. كتب الخبير الاقتصادي الكويتي الدكتور جمال عبدالرحيم في مقال له: (الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن تملك الكثير من المشاريع منذ بداية نشأتها، فالسكك الحديدية والماء والكهرباء والاتصالات وصناعة السلاح والزراعة والكثير من الخدمات كانت مملوكة للقطاع الخاص ولدعم نشاط الزراعة والصناعة والتنقيب عن الذهب ومن ثم النفط، اتبعت النهج الاقتصادي بأن الأرض لمن يملكها ويعمرها.. وهنا بدأت النزاعات والصراعات من قبل أصحاب النفوذ والجشع بالاستيلاء على الأراضي بشكل اجرامي حيث كانوا يرغمون المزارعين في بيع أراضيهم بأرخص الأثمان أو قطع مصادر المياه عنهم.. ولتقليل الاحتيال على الحكومة، قام الكونغرس الأمريكي في القرن 18 في إصدار الكثير من القوانين لحمايتها.. ليس هذا فحسب بل قامت بمراجعة وتطوير القوانين يوماً بعد يوم.. قام الكونغرس الأمريكي بتجديد التعديلات الخاصة التي أدخلت عام 1986 الى تعزيز قانون qui-tam وهو آلية فريدة في القانون تسمح للمواطنين الذين لديهم أدلة على وجود حالات غش أو احتيال باتخاذ اجراءات قضائية، نيابة عن الحكومة، وذلك لاستعادة الأموال المسروقة).

تساؤلات مشروعة

بالطبع فإن الصورة الاقتصادية في الولايات المتحدة ليست ملائكية، إلا أن ما يهمنا هنا ان وجود الخدمات بيد القطاع الخاص تم ضبطه من خلال سن القوانين المناسبة، واعطاء الثقة للمواطن بأنه قادر على حماية نفسه.أما عندنا في الكويت فمن حق المواطن ان يقلق عندما يسمع عن الخصخصة بناء على وقائع وتجارب عديدة: فهل يمكن فعلاً ان تُسن القوانين في الكويت بتجرد بعيداً عن التجيير لمصالح البعض؟ وهل يثبت المشرِّع والمنفِّذ على القانون الذي أثبت جدوائيته حين يتعارض مع مصالح البعض؟ وهل يتم تطبيق القوانين بصورة سليمة وعلى الجميع دون محاباة؟ وهل نمتلك قنوات قانونية وقضائية واضحة مثل قانون qui-tam؟ وهل يضمن المواطن وجود السلطة التشريعية باستمرار لتقوم بدور الرقابة والمحاسبة بتجرد؟ وهل يكفي ان تدغدغ الحكومة مشاعر المواطنين من خلال الوعود باعطائهم أسهماً في تلك المشاريع بعد الخصخصة؟ ألسنا نشهد رجوعاً قهقرياً من حالة التحضر والمدنية الى حالة البداوة حيث التمرد على القوانين، وطلبتك عطيتك، وحب الخشوم، وتقديم الولاءات القبلية والطائفية على أي معيار للكفاءة، وعدم الإحساس بالمسؤولية الوطنية، وعدم الشعور الحقيقي بالانتماء الى وطن يريد الاستمرار في الوجود والتقدم.. وغير ذلك؟ لا أريد هنا ان أتحدث بسلبية عن البداوة، بل المقصود أن المقارنة بين البداوة والتمدن تقود الى القول بأن الحالة الثانية تمثل تقدماً حضارياً مقارنة بالأولى. قال الله سبحانه وتعالى على لسان النبي يوسف عليه السلام: (وقدْ أحْسن بِي اذْ أخْرجنِي مِن السِّجْنِ وجاء بِكُم مِّن الْبدْوِ).

انتشال البلد

ولذا، اذا أريد للبلد ان يدخل عالم الخصخصة، فلابد أولاً من أن ننتشل الكويت من حالة التقهقر الحضاري في دائرة المفاهيم والقوانين والتطبيق والرقابة والجدية وغير ذلك، ثم تبدأ عملية سن القوانين على أسس علمية مدروسة ثم تطبيق الخصخصة بالتدريج، ومراجعة التجربة وتعديل الأخطاء وتطوير الأداء، ومن ثم الانتقال الى الخطوة الثانية وهكذا.