الزهراء في أحضان الرسالة النبوية ـ المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله

عندما نعيش التاريخ في شخصية تملك الكثير من عطاء الروح والفكر والحركة والحياة، فإنّ عيش التاريخ في هذا الواقع، يمثِّل حركة المسؤولية في وعينا، لأن الله تعالى أراد لنا عندما نقرأ كل التاريخ، سواء كان تأريخ الأنبياء أو الأولياء أو الطغاة، أن يكون التاريخ مدرستنا في كلِّ إيجابياته وسلبياته. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ} يوسف:111، والعبرة تفرض على الإنسان أن يأخذ من التَّاريخ ما يبقى له، وأن يترك ما يموت مع الزمن.
والرّوح تبقى، لأنّه عندما يعيش الإنسان روحه من خلال كل معاني الروحانية، فإنه يسمو ويحلّق ويرتفع بعيداً عن الحيوانية، لأنّ إنسانية الإنسان ليست فقط في الجانب المادي من شخصيته، ولكنها في الروح التي تنطلق في كل كيانه لتجعل منه إنساناً يحيا في الإنسان الآخر، ويذوب في الإنسان الآخر، ويضحِّي للإنسان الآخر، ويترك للحياة شيئاً يغنيها في كل أمورها. {يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ} الإنسان:8-9.

الزهراء وصناعة القيم:
وهكذا عاشت الزهراء عليها السلام، من خلال قيم أهل البيت عليهم السلام، كل معنى الروح في كلِّ كيانها وذاتها، لأنها عاشت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كلِّ روحانيته وفي كل ابتهالاته، وعاشت كلَّ هذا القلب الكبير الذي كان يعتصر عندما يعيش آلام الناس من حوله، والّذي كان يحرصُ على النَّاس كما يحرص على نفسه. وقد كانت تراه كيف يتألّم للفقراء والبؤساء والحزانى واليتامى، وهو الّذي قال الله عنه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} التوبة:128، وقد كانت الزهراء عليها السلام ترى كيف يرأف بكلّ الناس الذين يعيشون حوله ومعه، سواء كانوا من الذين يؤمنون به، أو من الذين لا يؤمنون به. لم تعرف في النبي أية نبضة حقد، فقد كان يحبُّ الناس جميعاً؛ كان يحبُّ المؤمنين به ليتحرَّك معهم في خط الدعوة إلى الله والعمل في سبيله، ويحبُّ الذين لا يؤمنون به حتى يهديهم بالمحبة من خلال قلبه الكبير الذي اتَّسع لكلِّ الناس، وكانت تتعلّم منه، تماماً كما تعلَّم منه أمير المؤمنين عليه السلام، الّذي أعطانا درساً في الانفتاح على الآخر، وفي نزع الحقد من صدره، عندما قال: (احصد الشرَّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك). كن القلب الذي لا يحمل الشر للآخر ولا يحقد عليه، كن الإنسان الذي يتحرّك في الآخر، وإن لم يكن مؤمناً بما تؤمن به، ولكن حاول أن تنفتح على إنسانيته، لأنك ستجد في داخل إنسانيته نبعاً يمكن أن يغنيك، فيؤمن في نهاية المطاف.

كفاءة العقل والإيمان:
عاشت الزَّهراء كلَّ هذا، ولم تكنْ طفولتها في مستوى طفولة الأطفال، فقد استطاعت أن تبلغ بعقلها مبلغاً كبيراً جعلها تعيش مع رسول الله في طفولتها الأولى لتشعر بمسؤوليتها، وكانت تتعلم ما يتعلّمه عليّ، وكانت تنفتح على الروحانية الفيَّاضة من روح رسول الله، كما كان علي ينفتح على ذلك، وكانت تعيش آفاق الرسالة في كلِّ حركة الدعوة وفي كل مشاكلها وآلامها وتحدّياتها هناك، كما كان يعيشها علي. ولذلك كان علي كفؤها، لأن الكفاءة ليست فقط في كفاءة النسب، ولكنها كفاءة العقل الذي يزاوج العقل، وكفاءة القلب الذي يلتقي مع القلب، وكفاءة الروح التي تذوب في الروح، وكفاءة ذلك الوعي المنفتح على الإسلام فكراً ومنهجاً وحركة.
عندما نستحضر الزّهراء عليها السلام، فإن علينا أن نعيش مع هذا الأفق الرّوحاني الطيِّب، حيث استطاعت أن تتحرَّك مع الله في أصفى روحانية، ومع الحياة في أوسع مسؤولية، هذه الإنسانة التي ترقُّ وتذوب روحاً محلّقة مع الله تعالى، هذه الإنسانة الّتي كانت مثقلة بكلِّ ظروفها الصعبة، ومع ذلك كانت تجمع النساء في بيتها من أجل أن تعلمهنَّ وتثقفهنَّ بكل ما سمعته من رسول الله، وكانت تعيش الثقافة كمسؤولية، حتى إذا انطلق الواقع الإسلامي بتعقيدات كثيرة بعد وفاة رسول الله، وقفت في مسجد رسول الله تدافع عن الحق، ولتبرز في ذلك ـ وهي بنت الثامنة عشرة من عمرها في أشهر الروايات ـ كعالمة تملك من العلم ما يلتقي بالفلسفة وما يلتقي بأسرار القرآن الكريم وبالفقه وبالسياسة التي تتحرك بالواقع هنا وهناك.
الزهراء عليها السلام هي قدوة الرجال والنساء، لأنّها تمثِّل الإسلام المتجسِّد المتحرِّك، لذلك أن نقتدي بها، ونأخذ شيئاً منها، ونعيش الذكرى حركةً واقتداءً واستلهاماً، تلك هي مسؤوليتنا. ومعنى أن نتذكَّر الكبار، هو أن نكبر بهم، وأن نتذكَّر ولاداتهم، أن نولد معهم، أن نعيش مسؤولياتنا في كل الواقع الذي نعيشه، فإنَّ قيمة الزَّهراء أنها عاشت الانتماء إلى الإسلام الأصيل، وعملت من أجل تأكيد هذا الانتماء، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} الأحزاب:33، فهم الطُّهر كلّه، والصفاء كلّه، والنقاء كلّه.