الفجور في الخصومة -2 ـ مقال للشيخ علي حسن



في العدد السابق تناولت الفجور في الخصومة من الناحية الاجتماعية، بين الأقارب وفي الوسط الإيماني، وسيكون حديثنا هذا حول الفجور في الخصومة في عالم السياسة والسياسيين.

السياسة عند الإمام علي:
عندما ندرس سيرة أمير المؤمنين علي عليه السلام فيما يتعلق بالحكم، فإنه يستوقفنا هذا الحوار بينه وبين ابن عباس.. قال الإمام- وهو يخصف نعله- : يا ابن عباس ما قيمة هذا النعل؟ أجاب ابن عباس: لا قيمة له يا أمير المؤمنين. قال الإمام: والله لهي أحب إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً وأدفع باطلاً.
وفي موقف آخر يناجي الله قائلاً: (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد عن معالم دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك).
ولذا نستطيع أن نقول بكل جرأة أن مَن كانت نظرته إلى الحكم بهذا الشكل لا يُتوقع منه أن يمارس الفجور في الخصومة السياسية، خاصة وأنه كان يصرّح بأن هذا الأمر في صوره المتعددة لن يصدر عنه. قال: (ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كلّ غدَرة فجَرة، وكلّ فجَرة كفَرة، ولكلّ غادر لواء يُعرف به يوم القيامة. والله ما أُستغفَل بالمكيدة، ولا أُستغمَز بالشديدة) فلا أحد يستطيع أن يستغفلني بمكائده ولا أحد يستطيع أن ينتقص من شأني وقوتي مهما كان التحدي شديداً. وقال في موقف آخر: (واويلاه، يمكرون بي ويعلمون أني بمكرهم عالم، وأعرف منهم بوجوه المكر، ولكني أعلم أن المكر والخديعة في النار، فأصبر على مكرهم، ولا أرتكب مثل ما ارتكبوه).

عهد الإمام يقدم التفاصيل:
وأما عهد الإمام علي عليه السلام إلى واليه على مصر مالك الأشتر فقد تضمن تفصيلاً رائعاً لمعايير التعامل عند الخصومة في عالم السياسة، قال: (وإن عقدتَ بينك وبين عدوك عُقدة أو ألبسْـتَه منك ذمة، فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جُنة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشدُّ عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود. وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين ـ أي قبلهم ـ لِما استوبلوا من عواقب الغدر. فلا تغدرن بذمتك، ولا تخيسن بعهدك ولا تختلن عدوك- أي لا تخنه ولا تخدعه- فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي. وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريماً يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه ـ أي لا إفساد ولا خيانة ـ. ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعوّلن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة، ولا يدعونَّك ضيقُ أمرٍ لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق، فإنَّ صبرَك على ضيقِ أمرٍ ترجو انفراجه وفضلِ عاقبتِه خيرٌ من غدرٍ تخافُ تبعتَه، وأن تحيط بك من الله فيه طلبة، فلا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك- أي لا يغفرها الله لك-).

نموذج مقابل:
في إزاء هذا النموذج الراقي عند الإمام عليه السلام تقابلنا صور كثيرة في التاريخ الإسلامي تجسد الفجور في الخصومة بأبشع صورها، ومن ذلك ما جاء في كتاب (تاريخ الخلفاء) للسيوطي: أن عبد الملك بن مروان حين خطب بالمدينة مركز المعارضة سنة 75هـ قال: (أما بعد، فلست الخليفة المستضعف ولست الخليفة المداهن ولا الخليفة المأفون. ألا وإن مَن كان قَبلي من الخلفاء كانوا يأكلون ويُطعمون من هذه الاموال، ألا وإني أداوي أدواء هذه الأمة بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم. تكلفوننا أعمال المهاجرين ولا تعملون مثل أعمالهم؟! والله لا يأمرني أحد بتقوى الله إلا ضربت عنقه!!). وفي مقال بعنوان (الاستحقاق السياسي في تاريخ المسلمين) للباحث المصري أحمد صبحي منصور تعليق على الكلام السابق: (والواضح في خطبة عبد الملك أنه يحكم بشرعية القوة أو الاستحقاق، ويرفض استخدام الوعظ الديني في نقده، ويهدد الثائرين عليه من مدَّعي التدين بالسيف. ويرى أن خصومه يطالبونه بالسير على عهد النبوة حين كان المهاجرون والأنصار يعيشون في عدل، ولكن هذا العدل قد انتهى عصره بدليل أن أولئك الخصوم لا يعملون عمل المهاجرين والأنصار، لأن العصر غير العصر. والواقع أن الأمويين أسرفوا في استعمال القوة إلى درجة القسوة دفاعاً عن شرعيتهم السياسية وأحقيتهم بالحكم كما يتصورون. فلم يتورعوا عن مذابح كربلاء واقتحام المدينة وانتهاك حرمة الكعبة في خلافة يزيد بن معاوية، كما لم يتورع ولاتهم من التطرف بقتل الأبرياء لمجرد الشبهة كما كان يفعل زياد بن أبيه والحجاج وخالد القسري).
أقول: هذه مدرسة وتلك مدرسة، ويبدو أن البعض من السياسيين واللاعبين الأساسيين في الساحة الكويتية قد استهوتهم مدرسة الفجور في الخصومة، فلا ورع يحجزهم، ولا خلق يردعهم، ولا وطنية تمنعهم، حتى لو كان الثمن خسارة مكتسبات وطنٍ ضحّى كثيرون من أجل أن يرتقوا به، بل وكأن البعض يدفع عن عمد ليوصل الأمور إلى المستوى الذي يكفر فيه المجتمع بما تم تحقيقه من مستويات الحرية والمشاركة السياسية العامة.. وهذا ما سنستعرضه في الجزء الثالث من موضوعنا بإذن الله تعالى.