خطبة الجمعة 13 صفر 1444: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: شحّ النفس

- قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9].
- الشُّح: غريزة في النفس تتمثّل في مَنْع الآخرين عمّا هو لها. واعتبر بعض اللغويين أنّ البخلَ أثرُ الشحِّ، فالشح هو الحالة النفسية المانعة، والبُخل هو الحالة الفعلية العملية لتلك الحالة النفسية.
- ولهذه الحالة النفسية حضورٌ قويٌّ، وقد قال تعالى: (وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ) [النساء:128] أي أنَّ الشحَّ حاضرٌ مع النفس، ملازم لها، لا يفارقها.
- هنا تتجلّى قيمة الإيثار، حيث يقاوم الإنسانُ هذه الحالة النفسية الملازمة والحاضرة بقوة، ويتغلّب عليها حتى في حالة حاجته الشخصية لهذا الشيء، بحيث يقي نفسَه مِن أن يكون الشحُّ المذمومُ خُلقاً له، فيُقدِّم مصلحةَ الآخرين وحاجتَهم على مصلحته وحاجته، فيفلح.
- وقد يقي نفسَه جزئياً من الشحُّ، فيكون له من الفلاح بمقدار تلك الوقاية.
- وجيء باسم الإِشارة للبعيد في قوله تعالى: (فَأُولَئِكَ) لتعظيم هذا الصنف من الناس.
- وجيء بضمير الفصل (هُم) في قوله تعالى: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، ولم يقل [فَأُولَئِكَ الْمُفْلِحُونَ] للمبالغة لكثرة الفلاح الذي يترتّب على وقاية شح النفس، حتى كأنه لا يوجد مفلح من بين الناس إلا الذين ينجحون في التغلب على شحّ النفس بشكل كامل.
- وهذه الحالة فرع من فروع طهارة النفس بمستوياتها العالية جداً، ولذا عُرفت العترة الطاهرة من أهل بيت النبي (ص) بالسخاء والكرم والجود والإيثار بأعلى المستويات.
- والإمام الحسن المجتبى (ع) خير مثال على ذلك، وهو الملقّب بعنوان (كريم أهل البيت)، وقد نقل المؤرخون صوراً عديدة من عطائه (ع)، منها ما روي عن علي بن زيد بن جدعان قال: (خرج الحسن بن علي من ماله مرّتين، وقاسم الله تعالى مالَه ثلاث مرار).
- وقيل له مرة: (لأي شيء لا نراك ترُدّ سائلاً؟ قال: إنّي لله سائل، وفيه راغب، وأنا أستحي أن أكونَ سائلاً، وأردَّ سائلاً، وأنّ الله عوّدني عادة: أن يُفيضَ نِعمَه عليّ، وعوَّدتُه أن أُفيضَ نِعمَه على الناس، فأخشى إنْ قطعتُ العادةَ أنْ يمنعنيَ العادة).
- ولنلتفت إلى أنّ هذه الصور المرويّة لا تتعلق بالعطاء الواجب الذي هو حقّ الله سبحانه فيما آتانا إياه من نعمه، بل هو من العطاء الاختياري.. بينما من المؤسف أنّ بعضَ المتديّنين باتوا أبعد ما يكونون عن وقاية النفس عن الشحّ، بما في ذلك العطاء الإلزامي!
- من بدايات البعثة النبوية والسور المكية تؤكّد على أهمية موضوع العطاء، ومن ذلك قوله تعالى: (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى، وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى، إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى، وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالأُولَى، فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى، لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَسَيُجَنَّبُهَا
الأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى) [الليل:5-18].
- وهكذا استمرّت السور القرآنية فيما بعد -في العهدين المكي والمدني- في التركيز على ضرورة العطاء، سواء ما كان بصورة إلزامية أو تطوعية، مع التأكيد على مبدأ أن المال الذي بيد الإنسان إنما هو ملك الله في الحقيقة، فقال: (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) [النور:33].
- ولديّ هنا مجموعة من الرسائل:
1. رسالة إلى المؤمنين بضرورة الالتفات إلى الوصايا القرآنية الخطيرة المتعلّقة بمسألة الإنفاق المالي، والمقترنة أحياناً كثيرة بعمود الدين -الصلاة- بما يعكس أهميتها. وقد روي عن الباقر(ع) أنه قال: (إن الله تبارك وتعالى قرن الزكاة بالصلاة فقال: [وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ]، فمن أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فكأنه لم يُقم الصلاة).
- أما الذين يتذرّعون بعدم ثقتهم في الطريقة المتّبعة في مركزية تجميع الأموال وإنفاقها،
فليعلموا أنهم لن يتخلصوا بذلك من مسئولية الإنفاق الإلزامي بعنوان الزكاة أو الخمس أو غيرهما، وعليكم أن تبحثوا بأنفسكم عن سبل إنفاقها بالصورة التي تبرئ ذمتكم أمام الله تعالى، لأن الله لن يقبل منكم هذا العذر، والذي قد يكون عذراً وهمياً للتهرب من أداء واجب شرعي.
- وأما الذين يتذرّعون بعدم اقتناعهم بأصل وجوب الخمس عليهم، فإننا نسألهم: هل أتيتم بالبديل؟ هل أخرجتم زكاة أموالكم؟ عادةً ما يأتي الجواب منفياً، فلا خمّسوا ولا زكّوا.. أقول لهؤلاء مشكلتكم قد لا تكون في الخمس، بل في حبّكم المال حباً جماً، مشكلتكم في حب الدنيا، مشكلتكم في الشح والبخل، لا فيما يجب عليكم من الخمس أو الزكاة.
- وبلغ الشح عند البعض أن صاروا يساومون على ما يجب إخراجه من الخمس من فائض رواتبهم.. آلاف الدنانير تُنفق على الكماليات، حتى إذا جاء رأس السنة الخمسية صار الأخ يساوم ويفاوض على خُمس بدل الشاشة، وبدل الطريق، وبدل غلاء المعيشة!
- وأما الذين لا يُخرِجون الحقَّ الشرعي، بل يوصون بإخراجه بعد مماتهم مما يتركونه للورثة فأقول لهم: إن هذا لا يخلّصكم من آثام أكل المال الحرام، ولن ينجيكم من المساءلة الإلهية، لأنّ هذا تكليفكم في المقام الأول، لا تكليف الورثة والأوصياء.
2. رسالة إلى أصحاب الخطاب الديني، فللأسف ساهم هذا الخطاب في إضعاف موقعيّة الإنفاق المالي في منظومة التشريعات الإسلامية، بحيث لا يُذكَر إلا في مرتبة متأخّرة في سلّم الواجبات، بعد الصلاة والصيام والحجّ، على الرغم من أن القرآن الكريم قد قرن الزكاة بالصلاة، وذكر الزكاة عشرات المرات، ولم يذكر الصيام والحج إلا مرات قليلة جداً.
- وهكذا ساهم الخطاب الديني في إضعاف الاقتداء بسيرة النبي (ص) والعترة الطاهرة (ع) بعدّة لحاظات، ومن بينها التركيز على الحالة الولائية على المستوى المعرفي دون العملي، بل والتشجيع أحياناً -ولو بصورة غير مباشرة- على التفكيك بينهما، وهو ما حذّرت منه النصوص العديدة المروية عنهم، ومنها قول الباقر (ع): (مَن كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تُنال ولايتنا إلا بالعمل والورع).
- بل حتى على مستوى الدعاء، يُنهي الخطيب خطابه بالدعاء بالتوفيق في الدنيا لزيارتهم، وفي الآخرة بنيل شفاعتهم... فقط؟! هذا هو مبلغ علاقتنا بهم؟ أن نزورهم!! ماذا عن اتّباعهم والعمل بسنّتهم؟! ماذا عن الاهتداء بهديهم؟ وهل تُنال الشفاعة بغير ذلك؟
- عن الصادق (ع): (اعلموا أنه ليس يُغني عنكم من الله أحدٌ مِن خلقه شيئاً، لا مَلَك مقرّب، ولا نبيّ مرسَل، ولا مَن دون ذلك، فمَن سرّه أن تنفعَه شفاعةُ الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه) وهل يَنال الإنسانُ رضى الله بغير الإيمان والعمل الصالح؟ وهل يكون الممتنع عن العطاء المالي مرضياً عنه؟
3. رسالة إلى الجهات الرسمية في الدولة: نحن ندرك الهاجس الأمني والضغط الدولي
الممارَس على الكويت في خصوص التبرعات بعناوينها المختلفة، ولكن الآلية المتّبعة حالياً في توجيه هذه أموال خارج البلاد آلية قاصرة وغير عملية بسبب البيروقراطية وعوامل أخرى، وأهل الكويت قد جُبلوا على عمل المعروف، وببركة ذلك تحرّر الوطن بعد غزوه واحتلاله.. كما أن للحقوق الشرعية الخاصة بالأخماس في الفقه الجعفري أحكاماً خاصة لا يصلح إخضاعُها لتلك الآلية، وكل ذلك يستدعي إعادة النظر فيها، والأخذ بمشورة أهل الاختصاص ومقترحاتهم.
- نذكّر من جديد أن علاقتَنا بالنبي وآله صلوات الله عليهم ليست مجرد علاقة تكريم وتعظيم وتفاخر، بل هي في المقام الأول علاقة اقتداء واتّباع واهتداء بسنّتهم وسيرتهم، ومن ذلك ما له علاقة بوقاية أنفسهم من الشُّح، وما عُرفوا به من الجود والكرم، فضلاً عن إخراج الحقوق المالية المفتَرضة، وهو ما يستدعي منا مراجعةَ أنفسِنا وتقييمَها من خلال ذلك، لاسيما وأن الأوضاع الاقتصادية لكثير من المجتمعات من حولنا مأساوية، وبعضها كارثي.