الاستثمار الممنوع - ليلة 20 من محرم 1444 - مجلس الحسينية الكاظمية

- (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّـهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)[البقرة:275]. لماذ حرّم الله الربا؟
- ذكر الفقهاء والمفكرون الإسلاميون أسباباً عديدة لتحريم ربا القرض، من خلال آثاره السلبية، وسأتحدث في هذا اليوم عن مفردة واحدة من هذه المفردات والمتعلقة بفلسفة الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي مع ذكر بعض المقدمات:
- جعل الإسلام الإنتاج، وتنمية الثروة، وتسخير الموارد الطبيعية لمصلحة الإنسان، هدفاً للمجتمع الإسلامي، وقدّم على المستوى الفكري والتشريعي مجموعة من المقوّمات والوسائل التي تتحقق من خلالها هذه العملية الحيوية.
- فكرياً: حثّ الإسلام على العمل والإنتاج، وقد روي عن النبي (ص) قوله: (إن قامتِ الساعةُ وفي يدِ أحدِكم فسيلةً، فإن استطاعَ أن لا تقومَ حتى يغرِسَها فليغرِسْها).
- وشجّع على إتقان العمل والإنتاج: (إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ).
- وربط كرامة الإنسان ورفعة شأنه عند الله سبحانه بالعمل، فالعامل في سبيل قوته -على سبيل المثال- أفضل عند الله من المتعبّد الذي لا يعمل ويعتاش من غيره.
- عن عمر بن يزيد قال: (قلت لأبي عبد الله [ع]: رجلٌ قال: لأقعدنّ ولأصلينّ، ولأصومنّ ولأعبدنّ الله، فأما رزقي فيأتيني). قال: (هذا أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم).
- وعندما سأل الصادق (ع) عن رجل، فقيل له: (أصابته الحاجة). قال: (فما يصنعُ اليوم؟) قيل: (في البيت يعبد ربّه). قال: (فمن أين قوته؟) قيل: (من عند بعض إخوانه). فقال: (والله لَلذي يقوته أشدُّ عبادةً منه).
- تشريعياً: قدّم الإسلام تشريعات كثيرة تساهم في تحقيق رؤيته حول تنمية الإنتاج، ومن بينها:
1ـ المنع عن صورٍ من الكسب بدون عمل.
مثال ذلك: لو استأجرت أرضاً زراعية من مالكها بمبلغ معين، ثم أجّرتها على ثالث (فلاح مثلاً) بمبلغ أكبر للحصول على التفاوت بين الأجرتين، فإنّ هذه العملية ممنوعة شرعاً إلا بإذن المالك، بل من الفقهاء مَن مَنع ذلك مطلقاً، ومن أسباب المنع:
- أن هذا الوسيط بين الفلاح والمالك لم يقم بأي دور إيجابي في عملية الإنتاج، وإنّما يعيش على حسابها بدون خدمة يقدّمها إليه، ولو ألغينا دوره فإن هذا سيوفّر على الإنتاج من خلال التقليل من تكاليفه... بالطبع دور هذا الوسيط يختلف عن دور الدلال، لأنه قام هنا بالاستئجار بنفسه.
2ـ إعطاء الحق للأفراد في إحياء المصادر الطبيعية والإنتاج من خلالها، كالأرض والمناجم، ولكن في نفس الوقت تمنعهم التشريعات الإسلامية من الاحتفاط بها إذا جمّدوا العمل فيها وعطّلوا عملية الإنتاج، ومن مسئولية الحاكم حينئذ تشجيعهم على مواصلة الإنتاج والاستثمار ورفع المعوِّقات.
- فإن استمرّوا في التعطيل كان من مسئوليته انتزاعها منهم، لأنّ استمرار سيطرتهم عليها في هذه الحالة يؤدّي إلى حرمان الإنتاج من طاقات تلك المصادر وإمكاناتها.
- بالطبع في زماننا هذا، هناك تشريعات وضعية متعددة في هذا المجال الاستثماري وتختلف من بلد إلى آخر، في الولايات المتحدة مثلاً (مَن يملك الأرض يملك ما تحتها)، فإذا نقب وظهر النفط فيها فالنفط له. أما عندنا في الكويت فلا يحق لك ذلك، وهذا من مختصات الدولة، ففي المادة 21 من الدستور الكويتي: (الثروات الطبيعية جميعها ومواردها كافة ملك الدولة، تقوم على حفظها وحسن استغلالها، بمراعاة مقتضيات أمن الدولة واقتصادها الوطني).
- قد يقال بأن السماح للأفراد بتملك الثروات الطبيعية كالذهب والنفط قد يحوّل بعضهم إلى محتكرين يسيطرون على الأراضي بسبب ثرائهم، وتتضخم ثرواتهم على حساب شريحة واسعة جداً، وهذه إشكالية توجّه إلى هذا التشريع الإسلامي.
- والجواب أنه تمت معالجة ذلك ببعض التشريعات، منها جعل ناتج العمل في الثروات الطبيعية الخام ملكاً للعامل لا المستثمر، فما يتحصّل من استخراج المعادن، وقطع أشجار الغابات، وأمثال ذلك هي ملك للعاملين، وبالتالي فليس من حق صاحب وسائل الحفر مثلاً، وآلات قطع الأشجار وأصحاب الشركات أن تتملكها، بل لها أجرة استعمال تلك الوسائل من قِبَل العامل لا غير. هذا التشريع يسعى لكسر الاحتكار المحتمل، وتقل معه سيطرة رأس المال على تلك الثروات.
3ـ عدم السماح للحاكم بإقطاع فردٍ ما شيئاً من مصادر الطبيعة إلا بالقدر الذي يتمكّن الفرد من استثماره والعمل فيه، لأنّ إقطاع ما يزيد على قدرته يبدد ثروات الطبيعة وإمكاناتها الإنتاجية، كما أنه قد يمنع سائر أفراد المجتمع من الاستفادة من هذه الثروة الطبيعية، فيخلق حالة من الاحتكار والطبقية الواضحة.
- من هنا نجد أن علياً (ع) لما فُتحت نواح من العراق على عهد الخليفة عمر، نبّه على ذلك.
- في تاريخ اليعقوبي: (وشاور عمر أصحاب رسول الله في سواد الكوفة، فقال له بعضهم: تقسّمها بيننا، فشاور علياً فقال: إنْ قسّمتها اليوم لم يكن لمن يجئ بعدنا شيء، ولكن تقرّها في أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا. فقال: وفّقك الله! هذا الرأي).
- وأكّد ابن حجر في شرحه لصحيح البخاري هذا المضمون حيث قال: (روى أبو عبيد في كتاب الأموال من طريق ابن إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن عمر أنه أراد أن يقسم السواد، فشاور في ذلك فقال له علي: دعهم يكونوا مادة للمسلمين، فتركهم).
- وقد حاول الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك بن مروان خلال فترة حكمه تغيير هذا الحُكم للاستئثار بأرض السواد، ولكنّه نُهي عن ذلك فامتنع، فقد روى البلاذري عن (سليمان بن يسار) أحد فقهاء المدينة المنورة في زمانه، وكان مولى لأم المؤمنين ميمونة بنت الحارث (قال: أقرّ عمر بن الخطاب السواد لمَن في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وجعلهم ذمّة تؤخذ منهم الجزية ومِن أرضهم الخراج، وهم ذمّة لا رقّ عليهم. قال سليمان: وكان الوليد بن عبد الملك أراد أن يجعل أهل السواد فيئاً، فأخبرته بما كان من عمر في ذلك فورعه الله عنه) أي تراجع عن قراره.
- بالطبع هذا لا يعني أن الأمويين لم يوظّفوا سياسة توزيع الأراضي والإقطاعات، بل قاموا بذلك بشكل كبير، فظهر الإقطاعيون كطبقة مميزة وثرية في المجتمعات الإسلامية المختلفة على حساب المال العام.
- وفي العهد العباسي، قامت الطبقة الأرستقراطية المقربة من السلطة بالاستحواذ على الإقطاعات الزراعية بجنوب العراق، مستغلة مكانتها لدى السلطة ونفوذها للاستئثار بها باعتبارها إقطاعات تمليك.
- هكذا، تحول الفلاحون إلى مؤاجرين، وفي كثير من الأحيان كانوا يعملون بالسخرة، كما رفعت الضرائب على الأرض حتى عجز ملاكها عن دفعها، ما استفاد منه الإقطاعيون الكبار الذين ضموها إلى أملاكهم بعد تخلي أصحابها عنها، واستقدموا "عبيدًا" من أفريقيا ومن الزط من الهند للعمل في الأرض، وتم تسخيرهم للعمل الزراعي، ومن شدّة العمل مات الكثير منهم. وكانت من أسباب ثورة الزنج في منتصف القرن الثالث الهجري.
4ـ تحريم بعض الأعمال العقيمة من الناحية الإنتاجية، كالمقامرة بالمال، التي لا تمثّل عمليّة إنتاجية نافعة للمجتمع، وإن حقّقت ربحاً استثنائياً لفرد معين، ولذا قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) [البقرة:219]، هذا بغض النظر عن آثارها السلبية الأخرى، ولذا قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة:90-91]، وقد اعتبرها الإسلام من مصاديق أكل مال الناس بالباطل.
- من خلال هذه المفردات، نقترب من فهم نظرة الإسلام إلى مسألة الإنتاج، وحركة الرساميل، وبالتالي فهم إحدى أسباب النهي عن الربا.
- فالإسلام بالإضافة إلى السعي لمنع حالة الاحتكار، وبتعبير القرآن: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ) [الحشر:7]، وبالتالي منع تشكل طبقية حادة في المجتمع، يريد أيضاً توظيف المال والمصادر الطبيعية في عملية إنتاج حقيقية، تعود على الدولة والأفراد بالفائدة، مع تحريك عجلة التنمية والاقتصاد بصورة حقيقية.
- أحياناً نجد ضخاً كبيراً للمال في مجال ما، ولكنه لا يحرّك عجلة التنمية والاقتصاد بصورة حقيقية، تماماً كما في المضاربة بالأسهم لشركات وهمية ليس لها وجود إنتاجي خارجي.
- حركة المال هذه بشراء وبيع الأسهم لا تعود على عجلة التنمية والاقتصاد بفائدة حقيقية.
- وهناك فرق بين أن تشتري أسهم لشركة وهمية، وأسهم لشركة حقيقية منتجة في مجال الصناعة أو بناء العقارات أو تقديم الخدمات وغير ذلك.
- وهذه أيضاً إحدى ملاحظاتي الشخصية على التعامل ببعض أنواع العملات الرقمية، إذ يقول البعض أنها بمثابة شرائك لأسهم شركة.. ولكن السؤال المهم هنا: هل الشركة حقيقية لها دور في الاقتصاد، أم مجرد عنوان؟ ما الفائدة الاقتصادية العائدة من هذه الشركة؟
- البعض يقول أنا أشتري تكنولوجيا... ما الخدمة التي تقدمها هذه التكنولوجيا؟ خدمة تزودك بالإنترنت مثلاً؟ خدمة تزودك ببرامج وتطبيقات فيديو ورسم وصوتيات مثلاً؟ لا شيء من هذا.. المسألة مجرد تلاعب بالكلمات... هل هناك بضاعة حقيقية تم شراؤها؟ أين تذهب المليارات عندما تنخفض قيمة هذه العملات بشكل كبير كما يحصل كل بضعة أشهر؟ من وراء ذلك؟ لا أحد يخبرك بشئ.. لأنه لا توجد تجارة حقيقية وراء ذلك.
- ولا أريد هنا أدخل في الحكم الشرعي والفتاوى الخاصة ببيع وشراء هذا النوع من الأسهم أو العملات الرقمية، ولكن هل يتوافق هذا مع ما قدّمناه من نظرة الإسلام إلى عملية الإنتاج بتوظيف المال واستثمار المصادر الطبيعية؟
- ثم فلنلاحظ أن الانهيارات التي يشهدها الاقتصاد العالمي كما حصل في 2008، أو تشهدها بعض المؤسسات المالية كالبورصة، تعود في جانبٍ منها إلى ضخامة حركة المال دون أن يقابل ذلك حركة اقتصادية إنتاجية حقيقية توازيها أو تقاربها، وهذا مما يحاول الإسلام أن يتجنّبه في نظامه الاقتصادي.
- نعود إلى مسألة ربا القرض، ففيها لا يتم استثمار المال في عملية إنتاجية مباشرة، بل إن المال هنا ينتج المال.. وهذا مرفوض إسلامياً.
- أي أن صاحب رأس المال إذا أراد أن ينمّيه، فعليه أن يحوّله إلى رأس مال مُنتِج بشكل مباشر، ليساهم في المشاريع الصناعية والتجارية والزراعية، سواء بأسلوب المضاربة، أو الشراكة، أو الإجارة، أو المزارعة، أو غير ذلك من الصور المشروعة.
- هذا جانب من ملامح السياسة الاقتصادية في الإسلام، ويقابلها الإفساد الذي مارسه الأمويون بالاحتكار وتوزيع الإقطاعات ومصادرة الأموال، والذي بُني على النظرة الاستعلائية حيث قال قائلهم: (إنما هذا السواد بستان لقريش) ففي تاريخ الطبري: (عن الشعبي قال قدم سعيد بن العاص الكوفة فجعل يختار وجوه يدخلون عليه ويسمرون عنده وإنه سمر عنده ليلة وجوه أهل الكوفة منهم مالك بن كعب الأرحبي والأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس النخعيان وفيهم مالك الأشتر في رجال فقال سعيد إنما هذا السواد بستان لقريش فقال الأشتر أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك، والله ما يزيد أوفاكم فيه نصيباً إلا أن يكون كأحدنا).
- وأما الحسين (ع) فقد خرج لمواجهة الفساد والإفساد الأموي، بما في ذلك ما تعلّق البُعد الاقتصادي منه، وهو القائل في وصيته لأخيه محمد قبيل خروجه من المدينة المنورة: (وأني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي)، وضحّى الحسين بنفسه وأهل بيته وأنصاره في مقاومة هذا الفساد والإفساد الأموي حتى سقطوا صرعى في ساحة مواجهة الحق ضد الباطل، والإصلاح ضد الفساد.