الفجور في الخصومة - مقال للشيخ علي حسن

يأتي هذا الموضوع إتماماً لفائدة الملف المميز الذي أعدته الوطن قبل أيام تحت عنوان الفجور في الخصومة، ويتناول المسألة من عدة جهات:
حتمية الخصومة:
الخصومة أمر واقع في المجتمع الإنساني ـ شئنا أم أبينا ـ وإن كانت في ذاتها أمراً مشيناً {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} الأنفال:46، ويعيش الناس في علاقاتهم صوراً متعددة من الخصومة على المستوى الفردي والجماعي، ولو نظرنا إلى البغي كسبب من أسباب وقوع الخصومات، فسنجده حاضراً دائماً (وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ) ص:24، حتى لو كان الذي يقود الناس ويهديهم ويحكم بينهم هو رسول الله خير البشر صلى الله عليه وآله وسلم، وقد دلّت الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة على وقوع الخصومات في المجتمع المسلم المعاصر للنبي لأسباب عديدة. نعم، استطاع النبي أن ينزع فتيل كثير منها، بتهذيب النفوس وتزكيتها وحسن تدبيره وسياسته، ولكننا نتحدث عن بشر، بأنانيتهم وحبهم للدنيا وتعاضد وساوس شياطين الجن والإنس وغير ذلك من العوامل التي تدفع إلى الخصومة.

إلا جنة الخلد:
ويبقى مجتمع أهل الجنة مختلفاً، وبمعالجة ربانية، كي لا تقع فيهم الخصومة {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ،ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ،وَنَزَعْنَامَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} الحجر:45-47

رفع القلم:

والأسوأ من الخصومة، الفجور فيها، بمعنى اعتقاد الإنسان برفع القلم عن كل قول وتصرف ورأي يصدر منه حيال خصمه، فكل شيء مباح، فلا تقوى ولا خلُق ولا شرف يحكم التصرفات، فالخصومة تبيح له كشف الأسرار والإساءة إلى العِرض والدين، واللجوء إلى السحرة والمشعوذين، واستخدام الرشوة وشهادة الزور، والافتراء وتدبير المكائد بما فيها تلك التي تُفضي إلى السجن أو القتل.

من علامات النفاق:

وقد اعتبر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أن ذلك من علامات النفاق، بمعنى عدم استحكام الدين في النفس، قال: (أربع من كن فيه فهو منافق، وإن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر).

أشد الحالات:

من أشد وأسوأ أنواع الفجور في الخصومة تلك التي تقع بين الأقارب والأزواج (وهي وفق استطلاع الوطن الأكثر انتشاراً) لأن من المفترض أن تكون علاقة الرحم أو العلاقة الزوجية محفوفة بصور الرحمة والمحبة والشفقة والتعاطف، فكيف يكون الفجور هو عنوان الخصومة بينهم؟
وفي القرآن الكريم صور عديدة للفجور في الخصومة من أقرب الناس:
قال تعالى في قصة النبي يوسف عليه السلام الذي كان بمثابة الابن لزوجة العزيز كما كانت تعشقه: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ} يوسف:32.
وقال بخصوص الطلاق: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوف ٍوَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا} البقرة:231. وصعوبة الأمر تأتي من نسيان العلاقة التي كانت تربطهما، وغلافها المودة والرحمة.
وحول احتمال وقوع ذلك من قبل أهل الزوج أو الزوجة: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ} البقرة:232.
وهكذا الأمر في خصوص حضانة الأبناء التي قد تتحول إلى مادة للانتقام وتصفية الحسابات: {لَاتُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ، وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} البقرة:233.

التوجيه الرباني:

ويأتي التوجيه الرباني متنوعاً، فهو تارة أخلاقي قال سبحانه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّـهَ}، وأخرى شعوري، قال تعالى: {وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}، وأخيراً بالتحذير من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة وقال سبحانه: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّـهِ هُزُوًا وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.

محنة الشهيد الصدر:

وكذلك فإن من أشد وأسوأ صور الفجور في الخصومة تلك التي تقع بين المتدينين، إذ يُفترض بهم أن يترفعوا عن الخصومة، فما بالنا بالفجور في الخصومة؟! وكم من عالم أو إنسان مؤمن مخلص عامل في سبيل الله وقع ضحية الفجور في الخصومة. وقد عانى من ذلك المرجع الديني والمفكر الإسلامي الكبير الشهيد محمد باقر الصدر رحمه الله باتهامه تارة بالعمالة، وأخرى بالخروج على ثوابت المذهب، وثالثة بالشخصانية وغير ذلك.
فعلى سبيل المثال وفي الفترة العصيبة التي رافقت حجزه ثم استشهاده، بعث أحدهم برسالة مضمونها كما يلي: (إننا نعلم أن الحجز مسرحية دبرها لك البعثيون، وأنت تمثل دور البطل فيها، والغرض منها إعطاؤك حجماً كبيراً في أوساط الأمة، إننا نعلم إنك عميل لأمريكا، ولن تنفعك هذه المسرحية!!) يقول شاهد القضية: (لقد رأيت السيد الشهيد قابضاً على لحيته الكريمة وقد سالت دمعة ساخنة من عينيه وهو يقول: لقد شابت هذه من أجل الإسلام أفأتّهم بالعمالة لأمريكا وأنا في هذا الموقع؟!).
وقد اعتبر الشهيد الصدر أن الدنيا هي التي غرت هؤلاء ولبّست عليهم الأمور، وهذا هو الفرق بين المؤمن الحقيقي عمن سواه، قال: (ما هي هذه الدنيا التي نحبها ونريد أن نُغرق أنفسنا فيها ونترك رضواناً من الله أكبر؟ نترك ما لا عين رأت ولاأذن سمعت ولا اعترض على خيال بشر. ليكن همنا أن نعمل للاخرة، أن يعيش في قلوبنا حب الله سبحانه وتعالى بدلاً عن حب الدنيا.. أنا أعلن لكم يا أبنائي بأني صممت على الشهادة و لعل هذا آخر ما ستسمعونه مني وإن ابواب الجنة قد فُتحت لتستقبل قوافل الشهداء، حتى يكتب الله لكم النصر).