خطبة الجمعة 24 ذوالقعدة 1443: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: شهادة إيشوعياب

- كنت قد تحدثت في سلسلة (الفتوحات الإسلامية) -وفي كتابي الذي يحمل هذا العنوان- عن واحدةٍ من العوامل التي جعلت الشعوب التي فُتحت في المشرق والمغرب من قبل المسلمين تتبنّى الإسلام ولغتَه العربية، وهذا على خلاف المعهود، حيث عادةً ما تنفر المجتمعات التي يقع عليها الغزو من ثقافة الغزاة، بسبب جرائم الحرب التي تُرتكَب، والظلم الذي يمارَس بحقها.
- وهذا العامل في حدّ نفسه ساهم أيضاً في جعل حركة الفتوحات سريعة، بحيث فُتحت مناطق شاسعة وانتُزعت من يد الرومان والفرس معاً، أي من أكبر امبراطوريتين في ذلك الزمان.
-هذا العامل هو عامل التسامح الديني الذي غلب على حركة الفتوح وما أعقبها من إدارةٍ للبلاد.
- وقبل أيام، أثناء قراءتي لكتاب يحمل عنوان (حين التقى المسيحيون بالمسلمين أول مرة: مرجع لأقدم الكتابات السريانية عن الإسلام) للأستاذ في جامعة ستانفورد (مايكل فيليب بن)Michael Philip Penn، اطّلعت على وثيقة مهمة تؤكد الحقيقة التاريخية التي كنت أتحدث عنها.
- الوثيقة عبارة عن رسالة كتبها (مار إيشوعياب الحديابي/الثالث) بطريرك كنيسة المشرق في القرن السابع الميلادي. وحدياب مملكة عاصمتها أربيل. ولد هذا البطرك سنة 580م، أي بعد 10 سنوات من مولد النبي (ص)، وتوفي سنة 659م/39هـ، أي قبل استشهاد الإمام علي (ع) بسنة.
- قال المؤلف: (كتب إيشوعياب رسائل عديدة توضّح بالتفصيل العمل اليومي لكنيسة الشرق في العقود الأولى لظهور الإسلام... ثلاثة منها تتضمّن فقراتٍ ذاتَ أهميّةٍ خاصة في إلقاء الضّوء على بعض أُولى التّفاعلات بين المسيحيّين والمسلمين).
- واحدة من هذه الرسائل -وهي موجّهة لرجل دين مسيحي آخر- تتضمّن ما يلي: (هؤلاء العرب الذين منَحهم الربُّ في هذا الوقت السيطرة على العالم، كما تعلمون، إنهم [أيضاً هنا] معنا. ليسوا فقط غير أعداء للمسيحية، بل يمتدحون ديننا أيضاً، ويُكرِمون كهنةَ ربِّنا ومقدَّسيه، ويَدعَمون الكنائس والأديرة). وما جاء في هذه الوثيقة انعكاس لأمرين مهمّين:
1. أن الإسلام أكّد في نصوصه وأدبيّاته أنه لم يأتِ لإلغاء ومحاربة الرسالات السماوية السابقة، بل هو امتداد لها، وأنّ مَن يرفض الإيمان بها فهو غير مؤمن بالرسالة المحمدية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا.... إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا، وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [النساء:136-152].
- فسلوك المسلمين المتسامح ناشيء عن تأسيس قرآني، والنصوص القرآنية في هذا الباب عديدة.
2. هذا السلوك المتسامح كان أيضاً بتربية نبوية، وانعكاس لسنّة من سننه (ص). عندما صالح النبي (ص) نصارى نجران وكتب المعاهدة لأساقفتهم جاء في النص ما يلي: (من محمد النّبي، إلى الأسقف أبي الحارث، وأساقفة نجران، وكهنتِهم، ومن تبعهم، ورهبانِهم: إنّ لهم ما تحت أيديهم، مِن قليل وكثير مِن بيعهم، وصلواتِهم، ورهبانيتهم، وجوارِ الله ورسولِه) أي أنهم في حماية النبي كحاكم للمسلمين (لا يُغيَّر أسقف من أسقفيّته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته. ولا يُغيَّر حقٌّ من حقوقهم ولا سلطانهم، ولا شيء مما كانوا عليه) وهذا يعني عدم التدخل بشئونهم الدينية مطلقاً فضلاً عن تعطيل شيء منها (على ذلك جوارُ الله ورسولُه أبداً، ما نصحوا واصطلحوا فيما عليهم، غير مثقِلين بظلم ولا ظالمين). تأكيد مجدد على أنهم في حمايته (ص) ما داموا ملتزمين بالعلاقة السلمية مع المسلمين، ولم يُعينوا ظالماً في ظلمه، ولم يَظلموا.
- سماحة الإسلام هذه أدرك تأثيرَها المستشرق (غوستاف لوبون) حيث قال: (ما جهله المؤرخون أنّ حِلمَ العربِ الفاتحين وتسامُحَهم كان من الأسباب السريعة في اتّساع فتوحهم، وفي سهولةِ اعتناق كثير من الأمم لدينِهم ونُظُمِهم ولُغَتِهم، التي رسَخت وقاومت جميع الغارات، وبقيت قائمة حتى بعد تَواري سلطان العرب عن مسرح العالم) ثم عقد لوبون مقارنة بين فشل الفرس والإغريق والرومان في إقامة حضاراتهم محل الحضارة الفرعونية، وبين نجاح المسلمين العرب في ذلك، وفي وقت قياسي.
- إن واحدة من شواهد تلك السماحة الإسلامية ما جاء في عهد أمير المؤمنين علي (ع) لمالك الأشتر حين ولاّه مصر إذ قال له: (وأشعِر قلبَك الرحمةَ للرعيّة والمحبّةَ لهم واللطفَ بهم) وفي مصر آنذاك عدد كبير من النصارى وغيرِهم من غير المسلمين، ثم قال: (ولا تكونن عليهم سَبُعاً ضارياً تَغتنِمَ أكْلَهم، فإنّهم صنفان: إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق... فأعطِهم من عَفوك وصفحِك مثلَ الذي تُحبُّ أنْ يُعطيَك اللهُ مِن عَفوِه وصَفحِه) ثم أوصاه بالعناية بفقرائهم والمعاقين والضعفاء منهم. هذه هي سماحة الإسلام في حقيقة مفاهيمه وأخلاقياته ووصاياه وتشريعاته، وما يتعارض مع ذلك يحتاج إلى وقفةِ تنقيحٍ وإعادةِ قراءةٍ وتحقيق.