خطبة الجمعة 17 ذوالقعدة 1443: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: لإيلاف الكويتيين


(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ، لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـٰذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [سورة قريش].
- تُذكِّر هذه السورة القرشيين بنعم الله عليهم، وما تحقَّقَ لهم مِن أمْن اجتماعي، ورخاء اقتصادي، ومكانةٍ بين العرب، مقارنةً بالمقوّمات الذاتية التي بمفردها ما كانت لتحقِّق لهم شيئاً يُذكَر.
1- ما كان القرشيون من أصحاب الحضارات المتقدمة علمياً وفلسفياً، بل كانوا أمّيّين، يجهل أغلبهم حتى القراءة والكتابة.
2- أما الموقع الجغرافي لمكة فسيّء.. أرض جرداء، وفقر في الموارد الطبيعية ولاسيما الماء، وجو صحراوي قاس.
3- اجتماعياً، قريش منقسمة إلى فروع متنافسة، وهذا التنافس قابل لتفجير صراعات داخلية وإنشاء تحالفات، كما جرى في الخصومة بين بني عبدالدار (لعَقَةُ الدم) وبني عبد مناف (المطّيّبين).
4- أمنياً، المنطقة غير مستقرة بسبب انتشار الغارات والسلب والنهب وقطع الطريق، والتعبير القرآني بليغ في التعبير عن ذلك حيث قال تعالى: (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت:67].
- كل ما سبق عوامل تدفع إلى أن يكون المجتمع المكي مجتمعاً فاشلاً وضعيفاً.. ولكنَّ يدَ الغيب شاءت أن يكون لهذه البلدة شأن عظيم، وعمادُ ذلك تحقيق مجتمع قوي متماسك، وهذا معنى: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ)، قريش المتآلفة المتفاهمة المتوحّدة حول قضاياها والتحدّيات التي تواجهها، والتي إن ظهر فيها الاختلاف والتنازع، سارع كبار شخصياتها لاحتواء المشكلة وفضّ النزاع بالحكمة.
- من هنا، فإنّ النزاع الذي شبّ بين حلفي (لعَقَة الدم) و(المطّيّبين) سرعان ما تم احتواؤه.
- هذا الائتلاف والتماسك الداخلي تَحقَّق من خلال عوامل:
1) المكانة المقدسة للكعبة المشرفة عند عرب الجزيرة، وهو ما أشارت إليه الآية الثالثة ضمنياً. وهو ما يؤدي -بالتبع- إلى تحوّل هذه البقعة إلى موطن حج وزيارة، وبالتالي حركة اقتصادية.
2) اهتداؤهم إلى التوافق على تسيير رحلة الشتاء والصيف التجارية، كما بيّنت ذلك الآية الثانية، وكان لهذا أثر في الانتعاش الاقتصادي لمكة، وعقد التحالفات الأمنية والتفاهمات التجارية مع القرى والقبائل المنتشرة على طول الخط التجاري شمالاً وجنوباً.
3) التوافق على سيدٍ وزعيم يوجِّههم، ويرجعون إليه في قراراتهم الحاسمة، وكان عبدالمطلب آخر زعمائها الكبار، ومِن قَبْله هاشم وعبد مناف إلى أن نصل إلى (قَصِي).. أما أبوطالب فإنه ورث الزعامة، إلا أن موقفه الإيجابي من دعوة النبي محمد (ص) أفقده الكثير من قوة زعامته.
4) اتخاذ مجلس لكبار الشخصيات، من مختلف الأسر والبطون المكية، يساندُ دور زعيم مكة، وهو دار الندوة، الذي أسسه قَصي، تُتداوَل فيه الأمور، ويَرفدُ زعيمَها بالرأي، ويُعينُه في مهامه.
5) وَضع مجموعة قوانين - دستور بسيط- نظّم فيه (قصيّ) مسئوليات القبائل والأسر المكية، وحِصصَهم في إدارة شؤون البلدة، وأموراً أخرى تنظيمية.
- مجموع هذه الإجراءات التي تمّ الالتزام بها حقّق لقريش ومكة الأمن الاقتصادي: (أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ)، والأمن السياسي والاجتماعي: (وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ).
- هذا نموذج من النماذج التاريخية التي تؤكد على أن:
1) المجتمعاتِ قادرة على تجاوز عقبة التنوع البشري، قبلياً، قومياً، دينياً، بل ويمكن تحويل ذلك إلى عامل إيجابي من خلال توظيف الخبرات والمهارات المتنوعة من أجل التكامل والتنمية.
2) ضعفَ الموارد الطبيعية التقليدية لا يعني حتمية الفقر والضعف الاقتصادي والاستسلام لهذا القدَر، إذ لابد من البحث عن الدور البديل الذي قد يكون سبباً لتحقيق الأمن والرخاء والاقتصادي.
3) تحقيقَ ذلك بحاجة إلى قيادة حكيمة تحمل همّ الوطن، وذات قوة شخصية قادرة على توحيد مكوّنات المجتمع لتجاوز الصعوبات، والالتفاف حول المشروع الوطني التنموي.
4) المشورةَ وتقليبَ الآراء، لاسيما في الأمور الكبيرة والحساسة، من خلال حكماء وكبار شخصيات التركيبة الاجتماعية المتنوّعة من الأمور الضرورية التي تعزّز القرارات الصادرة وتنَضّجها.
5) الدساتيرَ والنظمَ القانونية والالتزام بها من قبل الجميع يُعدّ ضمانة لتحقيق الاستقرار والأمن الداخلي وفق القانون، ودون محاباة لأحد أو جهة.
- المجتمعات العربية اليوم -بشكل إجمالي- مجتمعات تعاني بشدّة، سواء على المستوى الاقتصادي، أو الأمني، أو السياسي، أو الاجتماعي... وإذا أمعنّا النظر، سنجد أنها لا تفتقر ذاتياً إلى الموارد الاقتصادية، أو الأهمية الجيوسياسية، ولكنها تعاني إمّا مِن ضَعف القيادة وتَشظِّي الولاءات الحزبية المتنافسة والمتناحرة، أو التفرّدِ في القرارات، أو تفشّي الفساد وضَعفِ سلطة القانون، أو الافتقادِ إلى دستورٍ يُحتَكَم إليه، كل هذا علاوة على الدور السلبي الذي تمارسه بعضُ الأطراف الخارجية ضدّها.
محلياً، فقدَت الكويت -تقريباً- دورَها الإقليميَّ الرياديَّ في فضِّ النزاعات، وبل كونَها محوراً مهماً في حلّ بعضِ المشكلات الدولية، حيث باتت منهمكةً وغارقةً في مشكلاتها الداخلية الكثيرة، على الرَّغمِ مِن امتلاكها غالبيةَ مقوّماتِ الدولةِ الناجحة، أُسرةِ حكمٍ مُجمَعٍ عليها.. ودستورٍ مُحكَم.. ومشاركةٍ شعبية.. ومصدرٍ اقتصاديٍّ قليلِ المئونةِ في الإنتاج، وافرِ الربح.. وموقعٍ جيوسياسيٍّ مميَّز، وغيرِ ذلك من المقوّماتِ التي تمّ التفريطُ في الكثيرِ منها، وعاثت فيها يدُ المفسدين والفاسدين، وتداخَلت المصالحُ التجاريةُ مع السياسة، وغابَ العملُ بالقراراتِ التنمويةِ القائمةِ على التخطيطِ بعيدِ المدى، وصارت المشورةُ مِن الشكليّات، وضاعَ العملُ البرلمانيُّ في أروقةِ المزايَداتِ والمصالحِ الشخصيةِ والفئوية، وفُتحَت شهيّةُ البعضِ لنهبِ المالِ العامِّ في جُرأةٍ غيرِ معهودةٍ مِن قَبل. إنّها زفرةُ المتألِّم لحالِ وطنٍ كان مَضرباً للمثَل، وقِبلةً للعقولِ المُبدِعة، فإذا به يَتحوّل إلى بيئةٍ طاردةٍ لأبنائِه قبلَ غيرِهم، فهل مِن منتشِلٍ لهذا الوطن مِن براثِن هذا الواقعِ المؤسِف، أم أنّنا بلغنا نقطةَ اللاعودة لا قدّر الله؟