بوصلة الحياة - مقال للسيد جعفر فضل الله

تتجاذبك أحياناً مشاعر متناقضة تجاه صديق أو قريب تراه يتحرّك بالضرر لنفسه أو لمن حوله.. بين عاطفة تُريد أن تعبّر عن نفسها باحتضانة له مع كلّ سلبيّاته، متغاضية عن كلّ أخطائه؛ فهذا هو شأن العاطفة، أن تبتعد عن حسابات العقل، لتغرق في لجّة الأحاسيس الفيّاضة، فتحذف كلّ صورة مشوّهة للواقع، وتضفي عليه رونق خيال أخّاذ ساحر، فتُصبح الصورة المتخيّلة هي التي تواجهك وتواجهها، ويتأخّر الواقع عن وضوح الرؤية، فيُصبح هو الوهم أو ما يقرب من ذلك..
وبين عقل، يعبّر عن نفسه بمنطق الحسابات، في عناصر الإيجاب وعناصر السلب، ويدرس كلّ ذلك في المدى القصير والبعيد، صارمٌ كالسيف، وصلبٌ كالصخر، وجافٌّ جفاف الصحراء في الهجير.. يتأرجح بين كفّتي ميزان العدالة، لا يحابي في ذلك قريباً، والمفروض ألا يجور على البعيد..
يتجاذبك هذان الشراعان اللذان تُبحر بهما ذاتُك بين الأمواج المتلاطمة، والمواقف المتصارعة، والكلمات المثيرة، والانفعالات الجيّاشة، والعصبيّات الموتورة، حتّى تجد نفسك أحياناً واقفاً في وسط محيط الحياة، تعلو جبينك الرهبة من السكون القاتل في الموقف؛ فلا تدري ماذا تُحكّم؛ العاطفة التي نُلبسها أحياناً لبوس الحكمة، حتّى ليغدو العاقل مجنوناً في غمرة المواقف اللامعقولة؛ أم العقل الذي نسمّيه أحياناً تهوّراً أو حملاً للخشبة بالعرض في الأنفاق الضيّقة..
وقد تسمع طنين الكلمات في كلتا أذنيك.. في واحدة تسمع تهليلات المهلّلين، وفي الأخرى عتاب اللائمين.. على موقف وقفتَه، أو كلمة أطلقتها.. وهكذا أبداً تبقى النفس موطناً لصراع المتناقضات، وموقعاً لتجاذب المتنافرات، ومكاناً تجتمع فيه تجاذبات النفس وتقلّبات الخارج..
وأمام كلّ ذلك، تبقى أنت - يا ربّ - محوراً نقيس عليه كلّ حركة، وميزاناً نزن به كلّ موقف، ونوراً نطرد به ظلمات الجهل والغشّ والزيف، وحقّاً يُزهق كلّ تخرّصات الباطل.. وتبقى أنت - يا إلهي - أنيساً في دروب أوحشها ابتعاد الأصدقاء من قول الحقّ، ومؤمناً في طريق فرشتها عيون الحقد تجاه مواقف العدل، وسلاماً يتجاوز كلّ جهل الجاهلين، ونوراً يُشرق على الزوايا حتّى لو أعشى البصرَ سوادُ القلوب، ومنهلاً عذباً ليردك العطاشى ولو بعد حين..
وأنت - يا ربّ - السند في كلّ خطوات الدرب الطويل إليك، في اللحظة واللفتة، والحركة والموقف، والقول والفعل، والهدف والوسيلة، وأمام كلّ الظلمات التي تكتنف الطريق إلى معدن نورك الأبهج، ورائع قدسك الأقدس، وعند كلّ منعطف يرصدني فيه شيطانٌ ليُغرقني في استكبار الذات وأنانيّات الهوى..