قراءة في الخطبة الأولى من نهج البلاغة - الكعبة المشرفة والحج / القسم الأول


في نهاية الخطبة الأولى من نهج البلاغة ذكرٌ للحج، ومن الواضح أن الشريف الرضي حذف بعض المقاطع من الخطبة ككل بلحاظ أنه كان ينتقي المقاطع ذات الدلالة البلاغية الخاصة التي كان يقصدها في جمع وانتقاء الخطب في كتابه، قال (ع): (وَفَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ الحَرَامِ، الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلأنَامِ، يَرِدُونَهُ وُرُودَ الأنْعَامِ، وَيأْلَهُونَ إِلَيْهِ) يَلُوذُون به ويَعكفون عليه (وُلُوهَ الحَمَامِ).
- ونجد في سورة البقرة هذا العرض لدور البيت الحرام:
1. ارتبط تاريخ البيت الحرام والحج إليه بالخليل إبراهيم (ع) بعد أن أثبت جدارته للقيام بمسئولية القيادة الميدانية للناس نحو التوحيد النظري والعملي: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة:124-125]. يأتي هذا بغض النظر عن مسألة وجود هذا البيت قبل العهد الإبراهيمي أم لا، على اختلاف الآراء في المسألة.
- مع التأكيد على أنه أول بيت تم تعيينه للناس بعنوان بيت الله ليحجوا إليه: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران:95-97]... مجدداً نجد الارتباط بين إبراهيم (ع) وبين هذا البيت.
- وكذلك من خلال بيان دور البناء الذي قام به بمعية والد فرع كبير من العرب وهو ابنه إسماعيل: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة:127].
- ويتم التأكيد على هذا الارتباط في السورتين من خلال ذكر مقام إبراهيم كعلامة على أنه باني هذا البيت والذي جعله بيتاً لله وحده لا شريك له، وصلى لله عنده وكان قبلة له.
2. وضع الله تشريعات خاصة لحماية المكان وزواره، وذلك من خلال تشريع حرمة المكان والزمان: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً)، (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) [التوبة:36] أي عدم الالتزام بلك إضرار بأنفسكم، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنبكوت:67]. وكان هذا استجابة أيضاً للدعاء الإبراهيمي الدال على حكمته القيادية: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا).
3. العنصر الثالث الضروري للمكان هو الأمن الاقتصادي، وهذا ما دعا به إبراهيم (ع) أيضاً وضمنه له الله سبحانه: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [البقرة:126].
4. ضرورة المحافظة على الطابع التوحيدي للمكان: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة:125] وتخليصه من كل مظاهر الشرك.
5. العمل على توفير مقومات استمرارية هذا الدور والطابع التوحيدي لهذا البيت: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة:128]... ولكن هذه الذرية الممتدة عبر الزمن بحاجة إلى من يرشدها ويقودها، ويخرجها من أي انحراف محتمل، ولذا جاء الدعاء: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة:129].
- وحيث أسس إبراهيم (ع) هذا البيت ليكون له هذا الدور في حياة الناس، صار (قِبْلَةً لِلأنَامِ، يَرِدُونَهُ وُرُودَ الأنْعَامِ) فالأنعام تُقاد بسلاسة إلى حيث يريد راعيها، وهي حين تشعر بوجود الماء فإنها تتجه إليه تلقائياً وبلهفة (وَيأْلَهُونَ إِلَيْهِ) يَلُوذُون به ويَعكفون عليه (وُلُوهَ الحَمَامِ).