قراءة في الخطبة الأولى من نهج البلاغة - أحكام القرآن

- توقفنا في الأسبوع الماضي من خطبة الإمام (ع) عند حديثه عن القرآن الكريم بوصفه تركة النبي (ص) في أمته بعد رحيله، وقد بيّن ما فيه من العلم والعمل والوصايا والحكمة.
- ونكمل وصف الإمام لكتاب الله العزيز حيث قال: (بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ، وَمُوَسَّع عَلَى العِبَادِ في جَهْلِهِ) يشتمل القرآن الكريم على أصول ومعارف وأحكام واضحة بيّنة، وعندما يتلو المسلم العارف باللغة العربية هذه الآيات، يتحقق له العلم بمضمونها ورسالتها، وبهذا تصبح حجةً عليه، ويكون ملزوماً بالأخذ والعمل بمضمونها، لأنها تتحول إلى ميثاق بينه وبين الله: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ) [الرعد:19-20].
- وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ... وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [المائدة:6-7].
- وقد لام الله تعالى بني إسرائيل في موارد كثيرة لأنهم لم يلتزموا بالميثاق بينهم وبين الله وضرب على ذلك الأمثلة ومنها: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ) [البقرة:83-86].
- ومن هنا، فإن المطلوب من المؤمنين برسالة محمد (ص) أن يتجنبوا تكرار تجربة بني إسرائيل.
- في المقابل، هناك في القرآن ما لم يُبيَّن تأويله على وجه الدقة ويبقى في دائرة الاحتمالات والظنون، وذلك من قبيل الآيات المقطعة في بدايات السور الشريفة، وما جاء بخصوص يأجوج ومأجوج، والدابة التي تكلم الناس، وموارد أخرى، ونحن معذورون في جهل حقيقتها: (وَمُوَسَّع عَلَى العِبَادِ في جَهْلِهِ).
- ثم قال: (وَبَيْنَ مُثْبَتٍ في الكِتابِ فَرْضُهُ، وَمَعْلُومٍ في السُّنَّةِ نَسْخُهُ)
- هناك رأيان بخصوص نسخ السنة لأحكام القرآن:
الرأي الأول: جواز ذلك. ومن هناك يكون المقطع السابق واضحاً ومفهوماً، وهو يشير إلى تشريعات مفروضة في القرآن وقد نسخها النبي (ص) ورفع حكمها وذلك ضمن الصلاحيات المعطاة له من قبل الله تعالى.
- الرأي الثاني: عدم جواز ذلك. ولعل الإمام (ع) يشير إلى تخصيص بعض ما ورد في القرآن من مطلقات كما أشرت في المرة السابقة أن معنى النسخ كان أشمل من المعنى الحالي له، مثال ذلك أن الله ذكر الوصية في القرآن وأطلقها من دون تقييد، بينما جاءت السنة النبوية وقيّدت ذلك بالثلث فقط، وأعفى الله المسافر من الصيام في شهر رمضان، بينما قيّد النبي ذلك بشروط معينة.
- (وَوَاجب في السُّنَّةِ أَخْذُهُ، وَمُرَخَّص في الكِتابِ تَرْكُهُ) وذلك من قبيل حكم الصوم في بداية التشريع حيث إذا نام الصائم بعد دخول الليل وأفاق قبل الفجر لم يجز له تناول شيء من المفطرات، غير أن هذه السنّة النبوية نسخت فيما بعد بالآية القرآنية الشريفة: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ) [البقرة:178]..
- (وَبَيْنَ وَاجِب بِوَقْتِهِ، وَزَائِل في مُسْتَقْبَلِهِ)
الاحتمال الأول: الإشارة إلى الواجب المؤقت وغير المؤقت، الواجب المؤقت من قبيل صوم شهر رمضان وارتفاعه في غير هذا الشهر، خلافاً للتكاليف الدائمية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحق والعدل الواجبة على الدوام.
الاحتمال الثاني: الإشارة إلى بعض الواجبات كالحج الذي يجب على المكلف لمرة واحدة في العمر ثم يزول، واستدلوا على ذلك بالهجرة التي وجبت على المسلمين في بداية انبثاق الدعوة الإسلامية ـ
- (وَمُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ، مِنْ كَبير أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ، أَوْ صَغِير أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ) فالذّنوب منها كبيرة ومنها صغيرة، والكبير ما أعدَّ لأهله تعالى من العقاب، من قبيل الشرك وقتل النفس التي صرّحت الآيات القرآنية بتوعد مرتكبيها بالعذاب، فقد ورد في الآية 72 من سورة المائدة بخصوص الشرك (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْواهُ النّارُ)، وفي الآية 93 من سورة النساء بشأن قتل النفس (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فيها)، والصَّغير ما أعدَّ الله له من الغفران في ما لو اتقى الكبائر: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) [النساء:31].
- (وَبَيْنَ مَقْبُول في أَدْنَاهُ، ومُوَسَّع في أَقْصَاهُ) مثال قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [المائدة: 89]، فأدنى أفراد هذه الكفَّارة الإطعام، وأقصاها تحرير رقبة، وليس من شكٍّ أنَّ في قبول الأدنى توسعة على العباد.