خطبة الجمعة 3 ذوالقعدة 1443: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: قوالب نمطية


- عن الإمام زين العابدين (ع) - لما سئل عن العصبية -: (العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجلُ شرارَ قومِه خيراً من خيارِ قومٍ آخرين، وليس من العصبية أن يحبَّ الرجلُ قومَه، ولكنْ مِن العصبيةِ أن يُعينَ قومَه على الظلم).
- تحدثت في الأسبوع الماضي عن العنصرية والتعصّب، وسأتوقف في هذه الخطبة عند مسألة ذات ارتباط وثيق بذلك وهي أثر (التعميم) والحكم من خلال (القوالب النمطية)على تنمية التعصب.
- يذكر المختصّون أن مكوّنات التعصب ثلاثة: انفعالية وسلوكية ومعرفية.
1. المكوّن الانفعالي: أي المشاعر السلبية التي يحملها المتعصّب تجاه الآخرين، مثل الازدراء، والحقد، والحسد، والكراهية.
2. المكوّن السلوكي: أي الممارسات والمواقف العملية التي يتخذها المتعصب ضد الآخرين، وذلك من قبيل: المقاطعة، السخرية، السب، التمييز بحرمانهم من بعض الحقوق، كفرص التعليم، وفُرص العمل، والترقية... وقد تتطور الحالة إلى سلوك عنيف يتمثل في العدوان الجسماني والسطو على الممتلكات.
3. المكوّن المعرفي: أي التصورات والانطباعات السلبية التي يكوّنها ذهن المتعصب تجاه الطرف الآخر، وغالباً ما تكون بصورة (قوالب نمطية). أي أنه يكوّن تصوره عن فئة معينة من خلال سلوك فرد (أو البعض من المنتمين إلى تلك الفئة) ثم يعمّمها على كل من ينتمي إليها.
- هذا التعميم ناتج عن (القالب) الذي تم تشكيله في الذهن مسبقاً نتيجة اتخاذ موقف سلبي من قومية معينة، أو مذهب ما، أو أتباع دين معين، أو بلحاظ لون البشرة.. إلخ، ثم نبدأ بتطبيق ذلك القالب على كل مَن ينتمي إلى تلك الدائرة، ونصدر أحكامنا حينئذ، وبلا تردد، بناءً على ذلك.
- فهذا الفرد حتماً إنسان سيء، لماذا؟ لأنه ينتمي إلى تلك الفئة، أو تلك القومية، أو ذلك المذهب.
- وهذا التصرف صادر عن سوء نية، لماذا؟ لمجرد أنه صدر عن فلان المنتمي للفئة الفلانية.
- كلهم مادّيون.. كلهم تافهون.. كلهم منافقون.. كلهم سطحيّون.. كلهم انتهازيون.. كلهم يكرهوننا.
- إصدار مثل هذه الأحكام الكلية حتى قبل التعامل مع هذا الآخر، ناتج عن هذه القوالب المسبّقة التي اصطنعناها أو تبنّيناها.
- وأحياناً عندما نتعامل معه نندهش بأنه على خلاف أحكامنا الصادرة مسبقاً!
- صناعة القوالب الذهنية وإصدار الأحكام المسبّقة التعميمية قد تنشأ عن عاطفة الانتماء، وتقسيم المجتمع إلى معسكرين، جماعتي، وأعدائي.. هذا من شيعتي وهذا من عدوي.. حب شديد وتضحية من أجل جماعته.. وبُغض وعنف واحتقار وازدراء بحق الآخرين.
- هذه الحالة تُشبَّه بقيادة الطائرة على وضعية (الطيار الآلي) Autopilot... وإذا كانت هذه الوضعية ناجحة في قيادة الطائرة في كثير من الحالات، فإنها قد تؤدي إلى نتائج وخيمة في التعامل مع البشر... فهناك فرق كبير بين التعامل مع الآلة ومع الإنسان.
- والحل يكمن في تغيير الوضعية من التحكم الآلي إلى التحكم اليدوي... أي أن تصدر حكمك على كل فرد على حدة بغض النظر عن العنوان الذي يشترك فيه مع الآخرين، وأن يتم ذلك بعد التعامل معه، وتجربته، ثم تكوين الرأي بشأنه.
- وإذا أضفى على هذا النمط من إصدار الأحكام صفة (القداسة) الدينية أو الوطنية أو القومية، ازداد الأمر خطورة.
- لو كانت الأحكام المسبقة متوقفة عند حد الحكم عليهم بأنهم جميعاً أغبياء أو انتهازيون أو ما شاكل، لربما هانت المسألة.. ولكن عندما يكون الحكم من قبيل: كل أبناء هذا الفريق يمثّلون فسطاط الإيمان، ومَن سواهم من فسطاط النفاق والكفر... هؤلاء من أهل الجنة، ومَن سواهم من أهل النار... وهؤلاء يستحقّون الحياة، ومَن سواهم لا يستحقّون إلا الموت... فإن المسألة تأخذ منعطفاً خطيراً جداً.
- والخطورة العظمى تكمن في قابليتها لأن تتطور إلى التأثير القوي على (المكوّن والبُعد السلوكي للتعصب) فتصل إلى حد استباحة الدماء والأعراض والحقوق، وكل ذلك بمبررات وتأويلات شرعية يصدرها الفرد بنفسه، أو بالاعتماد على بعض مَن لا يملكون فقاهة حقيقية، أو بالوقوع ضحية أغراض مخابراتية.
- التعصّب الجاهلي بكل صوره ليس من الدين بشئ، وقد روي عن النبي (ص) قوله (مَن تعصَّب أو تُعصِّب له فقد خلع رِبقة الإيمان من عنقه) أي خلَع ما يربطه بالحالة الإيمانية، وإن مما يغذّي التعصب الممقوت أن يستسلم الإنسان للأحكام المسبّقة والقوالب النمطية الجاهزة التي يُعمِّم من خلالها الأحكام على الآخرين لمجرد انتمائهم لعنوان ما، ديني أو مذهبي أو قومي أو قبلي أو غير ذلك، وإذا كانت مكونات التعصب ثلاثة، معرفية وانفعالية وسلوكية، فإن مواجهة هذا الخلل بحاجة أيضاً إلى معالجة معرفية وانفعالية وسلوكية، وهي مسئولية مشتركة تقع على عاتق الأسرة والمدرسة والمؤسسة الدينية ووسائل الإعلام والسلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وأيُّ تساهل أو تجاهل لهذا الخلل الكبير سيؤدي إلى تضخّم المشكلة وتجذّرها وتحوّلها إلى سلوكيات خطيرة. ولنتذكر أن إبليس الذي وصفه علي (ع) بأنه (إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ، وَسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ)، إبليس هذا ما زال على قيد الحياة، وهو القائل: (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ).