الوقف والحبس - مقال للشيخ علي حسن


ورد مصطلح (الوقف) في كلمات الفقهاء، ولكنه لم يستخدم في القرآن، واستخدم نادراً في السنة الشريفة، والتعبير الشائع عن الوقف فيها هو الصدقة الجارية، كما في الكافي في الحديث الصحيح عن معاوية بن عمار قال: (قلت لأبي عبدالله - الإمام جعفر الصادق - عليه السلام: ما يلحق الرجل بعد موته؟ فقال: سُنّة سنّها يُعمل بها بعد موته، فيكونُ له مثلُ أجر مَن عمل بها من غير أن يُنتقص من أجورهم شيء، والصدقة الجارية تجري من بعده، والولد الصالح يدعو لوالديه بعد موتهما ويحج ويتصدق عنهما ويعتق ويصوم ويصلي عنهما. فقلت: أشركهما في حجي؟ قال: نعم) والمراد هنا الحج المستحب.

الوقف في الأمم الماضية

قيل إن نظام الوقف ابتكار إسلامي، ولم يكن معروفاً من قبل، ولكنني لم أقتنع بذلك لوجود المعابد عند الأمم طوال التاريخ، ووجودها ووجود ما يوفي نفقاتها بحاجة إلى نظام كالوقف، وفعلاً قرأت مقالاً في موسوعة الجياش الإلكترونية يؤكد على أن ما يشبه نظام الوقف الإسلامي كان معروفاً عند البابليين والفراعنة وسواهم، حيث كانت توقف الأراضي للمعابد والكهنة بحيث ينتفعون من ريعها، بل ولها أنواع كوقف الذرية وما شابه. وهكذا بالنسبة إلى نظام الولاية عليها.

من فوائد الوقف

عادة ما ينظر إلى أهمية الوقف من خلال ريعه والاستفادة منه، إذ يرفد العمل الدعوي أو الخيري، بل حتى العناوين الخاصة من قبيل الحفاظ على كيان الأسرة من خلال تأمين مصدر ثابت لإعالة المحتاجين منهم أو مقر محدد لاجتماعهم وما إلى ذلك. إلا أن فوائد الوقف تتجاوز مجرد الريع، ويمكن أن نذكر فائدتين مهمتين في المقام:
-1 حفظ الأعيان من الانتقال إلى الآخرين بالبيع أو غيره من أشكال النقل لاسيما في المناطق التي تشهد صراعات دينية أو دولية توسعية. وبهذا حفظت المساجد والأوقاف الإسلامية مثلاً في فلسطين إلى حد كبير في مقابل السياسة الاحتلالية والاستيطانية للصهاينة.
-2 للوقف صبغة حضارية عمرانية، حيث يساهم في العمران من خلال قيام المنشآت كالمساجد والمستشفيات ودور العلم ومراكز إيواء المعاقين والأيتام والمسطحات الخضراء وغيرها.

أخطاء فادحة

نتيجة الجهل بتفاصيل أحكام الوقف أو غير ذلك يقع الواقف أحياناً في أخطاء فادحة قد تترتب على أثرها مشكلات وسلبيات عديدة، وقد أشار إلى جانب منها المرجع الراحل الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء رحمه الله حيث كتب: (فالأوقاف الخيرية العامة ألعوبة في أيدي المتنفذين يستغلونها لمآربهم الخاصة، والأوقاف الخاصة للذرية صارت من أقوى أسباب الفتن والبغضاء، ومن أشد دواعي تقاطع الأرحام، بل كثيراً ما ينجر الأمر إلى خراب الوقف واضمحلاله فضلاً عما يترتب عليه من تلف الأموال بل النفوس وإثارة الدعاوى والخصومات).
وأشير هنا إلى بعض الأمثلة:
-1 عدم ضبط الوقفية من حيث المتولي والناظر وما إلى ذلك من عناوين تخص المسؤولين على الوقف حفظاً واستثماراً وتحقيقاً للغرض، مما يعني إهمالها أو ضياعها بعد وفاة الواقف، أو وضعها تحت سلطة غير مخوّلة شرعاً للقيام بهذا الدور.
-2 قيام صراعات بين أطراف متنازعة على الوقف، لاسيما إذا كان المردود المالي للعين الموقفة كبيراً، أو كان في الولاية عليها وجاهة أو سبباً للنفوذ إلى بعض المؤسسات الدينية أو غير ذلك.
-3 عدم مراعاة الاحتياجات الحقيقية عند الوقف، فقد تقام المشاريع الوقفية الخاصة في منطقة ما، مع وجود مثيلاتها فيها وسدّها للحاجة، كإنشاء مسجد أو حسينية في منطقة كأمر تستدعيه وجاهة الواقف، بغض النظر عن عدم حاجة هذا الموقع، ووجود الحاجة إليها في مناطق أخرى قد لا تحقق له من خلالها هذه الوجاهة، وبغض النظر عن الحاجة الفعلية إلى البدائل من قبيل المراكز العلمية والصحية والخدماتية وما شابه.
-4 عدم لحاظ التطور في العناوين المشمولة في الأوقاف، فالوقف للدعوة إلى الإسلام - على سبيل المثال - كان يتم من خلال مشاريع محددة، كالوقف على المبلغين أو إنشاء مسجد أو حسينية وما شابه، أما اليوم فالفضائية والفلم السينمائي الهادف والكتاب المصور والصحيفة الورقية والموقع الإلكتروني وغيرها كلها وسائل باتت ذات أهمية كبرى قد تتحقق من خلالها الأهداف المرجوة من الوقفية بصورة تتجاوز ما تحققه بعض الوسائل التقليدية.

الحبس حل لبعض المشكلات

في الفقه الجعفري عنوان آخر بالإضافة إلى الوقف وقريب إليه، وهو الحبس. ففي الوقف يُخرج الواقف العين من ملكه ليصبح وقفاً فينتفع من نتاجه وثمره لعناوين محددة، أما في الحبس فلا تخرج العين من ملكية الفرد، ولكنه يحبس منفعتها على أفراد أو جهات معينة مع إمكانية تحديد المدة الزمنية. ويمكن - بالتالي - للحبس أن يكون حلاً لبعض المشكلات التي نعايشها، فمثلاً عند وفاة رب الأسرة، قد تتعرض الزوجة إلى حرمانها من السكن بسبب قيام الورثة ببيع البيت بهدف توزيع الحصص، ولحل هذه المشكلة يمكن لرب الأسرة أن يحبس البيت في حياته بحيث ينتفع منه هو وزوجته وأولاده إلى وفاة الزوجين، وبالتالي لا يمكن لورثته أن يبيعوا البيت إلا بعد وفاة الزوج والزوجة.