جنة الأساطير ـ المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية

أنا أكره الألقاب وأشعر بنوع من الكراهية الصارمة لمن يحبها ويتهالك عليها، وأراه شيئاً غريباً ومنفصلاً عن واقعه، وكل إنسان ينفر بفطرته ممن يخرج عن الاعتدال إلى التطرف في أي شيء كان. إن معرفة النفس وتقديرها بما تستحق هي الخطوة الأولى في طريق النجاح وانسجام المرء مع نفسه وواقعه، ومن أعطى نفسه فضائل ليست فيه فقد عاش في جنة الأساطير تماماً كذاك الطفل المدلل سأل أباه أن يُنزل القمر من كبد السماء ليلعب به (فطبولاًـ كرة القدم)، أو كهذا الشيخ الذي كتب بالخط الطويل العريض على ما جمع وطبع (تصنيف فلك الفقاهة سلطان قلم التحقيق والنباهة شيخ الطائفة وقدوة مجتهدي الفرقة المحقة نائب الإمام وباب الأحكام غياث المسلمين وحجة الإسلام آية الله في الأنام الفقيه المخالف لهواه... إلخ). قطب وفلك وسلطان وغياث وباب وآية ونائب وحجة. ولا مدلول وراء ذلك إلا الأحلام ومضغ الكلام! ولا أدري كيف وصف هذا الشيخ نفسه بالعلو والشموخ أو رضي به على فرض أنه من غيره وهو مخالف لهواه وزاهد في الرفعة والجاه؟ ولهذا الشيخ المغرق في المتاهات أكثر من شبيه، ويا للأسف.
إن مكانة الإنسان وشخصيته تنبع من ذاته ومواهبه لا من الأزياء والألقاب، ولكن الذي يشعر بالنقص في نفسه قد يخيّل إليه أن الكلمات والألقاب تسد ما فيه من فراغ. يرفض الإسلام الطبقية وألقابها وكان النبي صلى الله عليه و آله وسلّم يكرهها، ويؤكد أنه بشر مثل الناس وعبد من عباد الله لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا يعلم الغيب وأنه ابن امرأة كانت تأكل القديد وأنه يجوع ويعطش ويمرض وينام وما هو بوكيل ولا بمسيطر على أحد، أما حق الولاية له فهي في طاعة الله ودينه وشريعته في الحق وصالح الفرد والجماعة واشتهر عنه وعن أهل بيته عليهم السلام (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
يوم كان للعالم الإسلامي حول وقوة وعلم وحضارة، كان للألقاب حد محدود لا يتعداه، فالخليفة وأمير المؤمنين لقب لرئيس الدولة الكبرى، والفقيه أو العالم لقب العارف بدين الله وشريعته. ولما تفتتت قوة المسلمين إلى دويلات وإمارات واضمحلت الحضارة الإسلامية وساد الجهل والتخلف، كثرت الألقاب الفارغة في الأوساط السياسية والدينية، وتسمى أمير القطر والناحية بالمنتصر والناصر والقادر والمقتدر والمظفر والظافر حتى قال الشاعر الساخر:
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد
وأطلق لقب علامة وإمام وآية وحجة الإسلام على كل ذي جبة وعمة بلا مراعاة النظير، حتى اختلط الحابل بالنابل، وتدنس الطاهر النقي، ورخص العالم التقي... وهذا أعظم ما رزئ به الإسلام والمسلمين.