مولد النبي وهموم الأمة ـ 2 من 2 ـ الشيخ علي حسن غلوم

تحدثت في العدد السابق عن ضرورة إعادة صياغة البناء المعرفي للإنسان المسلم في فهمه للوحدة بين المسلمين، وأن ترسيخ التعايش في المجتمع الواحد خطوة تسبق تحقيق الوحدة، وأن الوحدة لا تعني إلغاء الخصوصيات العرقية والقومية والمذهبية والقبلية وما إلى ذلك، بل المطلوب أن لا تتحول إلى عُقَد في طريق الوحدة المنشودة.
الوحدة في التجربة الغربية:
من المفترض أن نقرأ التجربة الغربية في ايجابياتها بالنسبة إلى كياناتها ومجتمعاتها، وكيف استطاعت أن تحقق حالة من الوحدة في مجتمعاتها المتنوعة عرقياً ودينياً ومذهبياً وقومياً، بحيث أن الجميع ـ تقريباً ـ يعمل لمصلحة الكيان الذي يعيش فيه، سواء أكنا نتحدث عن كل كيان سياسي على حدة، أو عن الاتحاد الأوربي على سبيل المثال.
فالغربيون بعد تجربة الحرب العالمية الأولى والثانية المدمرتين أصبحوا أمام خيارين، إما أن يعيشوا تجربة حرب عالمية ثالثة تزيد من مآسيهم، بل قد تفنيهم بأسلحة الدمار الشامل، وإما أن يعيدوا صياغة الجانب المعرفي عندهم، بحيث تكون المصلحة العامة ـ وبالخصوص مصلحة الكيان الذي يعيشون فيه ـ هي المقدَّمة على مصلحة الفرد.
أحزاب ومؤسسات فاعلة:
وعملت أحزابهم ومؤسساتهم الحكومية والأهلية على هذا المشروع، بحيث تغيرت نظرة الإنسان الغربي تدريجياً إلى الكيان السياسي الحاكم ودور الفرد والشعب في تقييم وتقويم الحكم واتخاذ القرار، وفي العلاقات السياسية مع الدول المجاورة، وهكذا أصبح الفرد في صلب القرار السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وتم إعادة صياغة البناء المعرفي وبشكل أتاح لهم تحقيق كيانات قوية تعتبر الوحدة بالنسبة إليها مسألة استراتيجية، بل مسألة حياة أو موت. وهذا يؤكد ما ذكرته في العدد السابق بأننا بحاجة ماسة إلى إعادة صياغة البناء المعرفي إسلامياً، لنقرأ مسألة الوحدة من جديد وبصورة عميقة ومغايرة.
مشروع إراسموس:
ولنأخذ المشروع التالي كنموذج للمشاريع العملية المدروسة التي تهدف لتحقيق ما ذكرته في الأسطر السابقة. ففي اجتماع مجلس الاتحاد الأوروبي المنعقد في مارس 2000م قرر رؤساء الدول والحكومات الأوروبية تبني هدف استراتيجي تسعى دول الاتحاد إلى تحقيقه حتى عام 2010 م، وهو أن يصبح الاتحاد الأوروبي صاحب أكبر اقتصاد معرفي، والعمل على تدعيم ونشر الترابط الاجتماعي في المجتمع الأوروبي. وقد قام الاتحاد الأوروبي منذ سبعينيات القرن العشرين بتبني مشروع ضخم يتكون من عدة برامج مختلفة، وأطلق على هذا المشروع اسم «سقراط»، ومن بين برامج «سقراط» برنامج «إراسموس» الخاص بتطوير التعليم العالي في دول الاتحاد، حيث يقوم الاتحاد الأوروبي عن طريق هذا البرنامج بمنح كلّ طالب يشترك فيه تكاليف العيش طيلة دراسته، وقد موّل برنامج إراسموس منذ انطلاقه نحو مليون طالب للدراسة خارج بلدانهم، وساهم في المقاربة بين أنظمة التعليم العالي في الدول الأوروبية، كما منح الطلاب فرصًا جديدة للدراسة المطوّلة أو المكثّفة، والعيش بحرّية في أي بلد يختارونه من ضمن بلدان الاتحاد، ما يمكنهم من التعرف على ثقافات مختلفة، وتعلم لغة جديدة. وخصص للأساتذة برنامج تبادلي مشابه.
وبالإضافة إلى الطلاب والأساتذة، هناك أنشطة تختص بتطوير المناهج والبرامج الأكاديمية، على أن يلبي التطوير متطلبات الجودة، ويعزز نشر ثقافة الوحدة الأوروبية، ويتيح فرص التعاون والمشاركة بين الجامعات المختلفة. ومن المعايير التي تراعى عند اختيار أنشطة تطوير البرامج الأكاديمية: مدى التباعد الجغرافي بين الدول المشاركة في النشاط، وذلك بهدف عدم اقتصار هذه الأنشطة على دول بعينها.
وبعد انتهاء مشروع سقراط شرع الاتحاد في العمل وفق مشروع تكميلي أطلق عليه اسم (برنامج التعلم مدى الحياة) يهدف للمساهمة في الدخول إلى تطوير الاتحاد كمجتمعات تمتلك المعرفة مع الاعتماد على اقتصاد قوي دائم التطوير والعمل على جعل المجتمعات الأوروبية أكثر ترابطًا.
هكذا يفكرون ويخططون وينفّذون ثم يقيّمون تجربتهم بصدق، فكيف نعمل نحن؟