داروين بين ضلع آدم وطينته

قال تعالى في الآية الأولى من سورة النساء: (يَأَيهَُّا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكمُ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنهَْا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنهُْمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَ نِسَاءً وَ اتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كاَنَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).. فما معنى النفس الواحدة؟ وما الذي تريد الآية أن تثيره في تصور الإنسان عن مبدئه ومعاده وعلاقاته الإنسانية؟
الله الخالق:
أول ما تثيره الآية بهذا الخصوص هو ربط الوجود الإنساني بالخالق جل وعلا سواء اعتبرنا أن أصل النشوء تم من خلية أحادية تطورت عبر الزمن المديد لتصل في نهاية المطاف إلى آدم وحواء لتبدأ معهما سلسلة الجنس البشري الآدمي، (كما يصر على ذلك أتباع نظرية داروين، في نظرية لم ترتق من حيث الأدلة والشمولية لتصبح حقيقة علمية، بل تنبع من فرضيّات ظنية تخضع للحدس و التخمين، لأنها لا تمنع الاحتمالات المضادة، من خلال طبيعة التجربة، أو من خلال الحلقات المفقودة في حركة التجربة، و لذلك، فإنّها لا تمثل أساسا علميا في مقابل الوحي الإلهي الذي يمثل الحقيقة الدينيّة)، أو التزمنا بالنص القرآني الذي يظهر منه أن خلق آدم لم يكن كذلك وإنما تم بإرادة إلهية مباشرة دون تسلسل في مراتب الخلق (إِنَّ مَثَلَ عيسى‏ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون‏) آل عمران:59.
ولهذا الربط أثر مهم في الوجود الإنساني إذ يجعله يعيش الشعور بالله في كل نبضة من نبضات قلبه، و في كل خلجة من خلجات مشاعره، و في كل حركة من حركات جسمه، و في كل مظهر للحياة، فيمتلئ إحساسا باللَّه، كلما تعاظم إحساسه بالحياة، حيث يجد اللَّه في ذلك كله، لأنها وجدت به و منه، و استمرت من خلاله، وتستمر بقدرته.
النفس الواحدة:
تفرق المفسرون في بيان المراد من هذا التعبير القرآني إلى اتجاهات متباعدة، يمكن تقسيمها في البدء إلى قسمين:
1ـ الحديث في الآية عن طبيعة الوجود الإنساني، وليس المقصود من النفس الواحدة وزوجها خصوص آدم وحواء كفردين بدأت معهما سلالة الجنس البشري الآدمي، بل المقصود الجنس البشري المنقسم إلى ذكر وأنثى، وكأن الآية تقول (خلقكم من جنسين هما الذكر والأنثى وبث من الجنسين رجالاً كثيراً ونساء).
2ـ الحديث في الآية عن بداية الوجود الإنساني و طريقة استمراره، فهناك مخلوق أول، خلقه اللَّه في البداية كجسد، و أودع فيه روحاً من روحه. و في هذا الجو كانت الزوجية طبيعة ذاتية في هذا المخلوق، و لا بد أن تكون الإشارة في هذا الى آدم و حواء، على أساس أنهما خلق اللَّه المباشر الذي كان القاعدة الأولى التي انطلق منها التكاثر و هو ما توحيه عبارة (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً) فإنّ القضية لو كانت كما ذكره أصحاب الرأي الأول، لما كان هناك مكان لهذه الفقرة التي تتحدث عن عملية التكاثر من موقع الوحدة.
ثم ينقسم أصحاب الرأي الثاني إلى أقسام، من بينها:
ضلع آدم:
فأصحاب هذا الرأي يقولون أن النفس الواحدة التي خُلق منها زوجها تعني بدن آدم عليه السلام وكأن الآية تؤيد ما جاء في التوراة التي بيد اليهود اليوم والأحاديث المبثوثة في كتب المسلمين من أن حواء خُلقت من ضلع آدم، ثم يدخلون في حساب أضلع المرأة و أضلع الرجل، ومحاولة إثارة بعض المفاهيم الاجتماعية والعاطفية المترتبة على ذلك تخفيفاً لوقع التعبير الدارج أن المرأة خلقت من ضلع أعوج.
طينة آدم:
ويذهب آخرون إلى أن الآية واردة في مقام تسلسل الخلق، دون أن يتم الخلق من ضلع آدم، فإن الآية لا تدل عليه بل يمكن أن يتجه النظر نحو الجزء المتبقي من الطينة التي خلق منها آدم. و قد ورد ذلك في حديث عن الإمام محمد الباقر عليه السّلام، فعن عمرو بن أبي المقدام، عن أبيه قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام: من أي شي‏ء خلق اللَّه حواء؟ فقال عليه السّلام: أي شي‏ء يقولون هذا الخلق؟ قلت يقولون: إن اللَّه خلقها من ضلع من أضلاع آدم. فقال: كذبوا، أكان اللَّه يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه؟ فقلت: جعلت فداك، من أي شي‏ء خلقها؟ فقال: أخبرني أبي عن آبائه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: إن اللَّه تبارك و تعالى قبض قبضة من طين، فخلطها بيمينه، و كلتا يديه يمين، فخلق منها آدم و فضلت فضلة من الطين، فخلق منها حوّاء. (مع ملاحظة أن تعبير يمين الله وكلتا يديه يمين تعبير مجازي كنائي ولعل المراد منه القدرة الإلهية).
لماذا الجمع؟
ويضيفون للتأكيد على رأيهم أن اللَّه تحدث في آيات أخرى عن الموضوع بطريقة الجمع، مما يدل على أن الحديث يدور حول خلق الزوج من داخل نوعه ومن عنصره الأصلي لا من بعض أعضاء جسده، كما في قوله تعالى: (ومِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) الروم: 21، فهل يصح أن نقول أن الآية تذهب إلى أن كل زوجة خُلقت من ضلع من أضلع زوجها؟
رفض التمييز العنصري:
ويمكن أن نستفيد من الآية أمراً آخر، فإرجاع أصل كل الناس إلى نفس واحدة يعني التوجيه نحو رفض كل صور التمييز العنصري و العرقي و اللوني و اللغوي، فإن هذه العناوين في حد ذاتها لا تمثل حقيقة الإنسانية، ولا تشكل قيمة حقيقية يمكن على أساسها التمييز بين البشر، بل إنه تنوع يمثل قدرة الله سبحانه، دون أن يمثل امتيازاً ذاتياً لصاحبه.