إنها والله الجنة ... محاضرة ليلة 21 من شهر رمضان .. استشهاد أمير المؤمنين (ع) - الشيخ علي حسن

(اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا اَمينَ اللهِ في اَرْضِهِ وَحُجَّتَهُ عَلى عِبادِهِ اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا اَميرَ الْمُؤْمِنينَ اَشْهَدُ اَنَّكَ جاهَدْتَ فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ وَعَمِلْتَ بِكِتابِهِ وَاتَّبَعْتَ سُنَنَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ حَتّى دَعاكَ اللهُ اِلى جِوارِهِ فَقَبَضَكَ اِلَيْهِ بِاخْتِيارِهِ وَاَلْزَمَ اَعْدآئَكَ الْحُجَّةَ مَعَ ما لَكَ مِنَ الْحُجَجِ الْبالِغَةِ عَلى جَميعِ خَلْقِهِ).
- ذكرت في الليلتين الماضيتين أن علياً (ع) كان يربط تفسير الآية بالمفاهيم الإيمانية والأخلاقية دون الاقتصار على التفسير، وهو القائل: (ذلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ يَنْطِقَ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ: أَلاَ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتي، وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ، وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ).
- وفي نهج البلاغة نماذج من ذلك، كخطبته بعد تلاوته: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)، وعند تلاوته: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ).
- فالقرآن الذي جعله الله كتاب الإنسان في الحياة، بحيث يستلهمه في كلّ ما يواجهه من قضايا ومشاكل وتطوّرات ومتغيّرات، يحتاج إلى فهم أكثر عمقاً وحركيّة وحيويّة في واقع الإنسان، ولكنّ المسلمين جمّدوه، وحصروه في دوائر صغيرة.
-وقد كان الإمام (ع) يدفع نحو التأمل الذاتي في القرآن بحثاً عن الحقيقة: (أَلاَ إنَّ كُلَّ حَارِث مُبْتَلىً فِي حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ، غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرآنِ. فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَاسْتَدِلُّوهُ عَلى رِّبِّكُمْ، وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلى أَنْفُسِكُمْ، وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ، وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ).
- وقد تلمّسنا ذلك عندما توقّفنا في الليلة الماضية مع خطبته (ع) في نهج البلاغة برقم 222 وفيها قدّم الإمام مجموعة من المفاهيم المستنبطة من قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ)، ووصلنا إلى المقطع التالي:
- (وَإِنَّ لِلذِّكْرِ لَأَهْلًا أَخَذُوهُ مِنَ الدُّنْيَا بَدَلًا، فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْهُ، يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ) هذا الذِّكر يمثّل عنوان مسيرتهم في الحياة الدنيا نحو الآخرة (وَيَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فِي أَسْمَاعِ الْغَافِلِينَ) فهم غير سلبيين تجاه ما يُحيط بهم مِن أجواء الغفلة عن الله.
- (وَيَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَيَأْتَمِرُونَ بِهِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ) فلا يعيشون الازدواجية في شخصيتهم، لأن ظاهرهم انعكاس لباطنهم.. على خلاف المنافقين والذين في قلوبهم مرَض:
- مِن الذين اسودّت جباهُهم، ولكن بقيت قلوبُهم سوداء مُظلمة.
- ومن الذين لا تُفارق حبّاتُ المِسباح أناملَهم، ولكن بقيت أياديهم مُنغمسةً في معصية الله.
- هؤلاء لم يعيشوا تقوى الله في حقيقة وجودهم، إما غفلةً، أو عن سوء فهم، أو لأنهم اتخذوه شِعاراً لخداع الناس، أو ظناً بأنّ لهم أن يخدعوا الله في جنّتِه: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [البقرة:9].
- (فَكَأَنَّمَا قَطَعُوا الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ وَهُمْ فِيهَا، فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ. فَكَأَنَّمَا اطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ الْبَرْزَخِ فِي طُولِ الْإِقَامَةِ فِيهِ، وَحَقَّقَتِ الْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ عِدَاتِهَا).
- إنهم ما يزالون في الدنيا، وكلٌّ من البرزخ والآخرة غيب، ولكنهم من خلال ذلك الذِّكر المستمر خصّهم الله بمرتبة من اليقين بهما، وامتلكوا بصيرة صار معها الغيب بالنسبة إليهم حقيقة مشهودة لا لبس فيها.
- ولكن، هل اكتفوا بأنْ أنعم الله عليهم بما أنعم؟ كلا، بل إنهم انطلقوا في مجتمعاتهم: (فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الدُّنْيَا، حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لَا يَرَى النَّاسُ، وَيَسْمَعُونَ مَا لَا يَسْمَعُونَ) تحقُّق مثل هذا الأمر ليس بالسهل، ولكنها البصيرة التي يمنحها الله لهم.
- وواحدة من الصور الغيبية التي شاهدوها بعقولهم، الحساب الأخروي الدقيق:
(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49].
- ولذا بادروا لمحاسبة أنفسهم بدقة قبل الوقوف بين يدي الله في ذلك الموقف: (فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِكَ فِي مَقَاوِمِهِمُ الْمَحْمُودَةِ وَمَجَالِسِهِمُ الْمَشْهُودَةِ، وَقَدْ نَشَرُوا دَوَاوِينَ أَعْمَالِهِمْ، وَفَرَغُوا لِمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا، أَوْ نُهُوا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فيهَا).
- هذه هي الخطوة الأولى، أما الثانية فهي تحمّلهم لمسئولية ما قدّموا، بالمبادرة إلى إصلاح أخطائهم: (وَحَمَّلُوا ثِقَلَ أَوْزَاِرِهمْ ظُهُورَهُمْ).
- ولكنهم حيث يجدونها ثقيلة التبعات، يتوجّهون إلى الله بالتوبة والبكاء وطلب العون: (فَضَعُفُوا عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِهَا، فَنَشَجُوا نَشِيجاً، وَتَجَاوَبُوا نَحِيباً، يَعِجُّونَ إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَمٍ وَاعْتِرَافٍ).
- إن علياً (ع) لا يصف بكلماته هذه ملائكةً مقرَّبين، ولا عباداً معصومين، بل إنه يتحدث عن نموذجٍ قابلٍ أن يكون كلُّ فردٍ منّا مصداقاً مِن مصاديقه، غاية ما في الأمر أن المطالِب لا تُدرَك بالتمنّي.. بل بالعزيمة والهمّةِ والعملِ الجاد.
- في أمالي الصدوق: بالسند عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير قال: (كنّا جلوسا في مجلس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله فتذاكرنا أعمالَ أهلِ بدر وبيعةِ الرضوان، فقال أبو الدرداء: يا قوم ألا أخبركم بأقل القوم مالاً وأكثرهم ورعاً وأشدهم اجتهاداً في العبادة؟ قالوا: من؟ قال: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: فوالله إن كان في جماعة أهل المجلس إلا معرض عنه بوجهه. ثم انتدب له رجل من الأنصار فقال له: يا عويمر، لقد تكلمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها، فقال أبو الدرداء: يا قوم إني قائل ما رأيت وليقل كل قوم منكم ما رأوا، شهدت علي بن أبي طالب بشويحطات النجار) الشوحط: شجر يتخذ منه القسي (وقد اعتزل عن مواليه، واختفى ممن يليه، واستتر بمغيلات النخل) المغيلات: النخل الوارف الظل (فافتقدته وبعد على مكانه، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجي وهو يقول: إلهي كم من موبقة حلُمتَ عن مقابلتها بنقمتك، وكم من جريرة تكرمْت عن كشفها بكرمك، إلهي إن طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي فما أنا مؤمل غير غفر انك، ولا أنا براج غير رضوانك " فشغلني الصوت واقتفيت الأثر، فإذا هو علي بن أبي طالب عليه السلام فاستترت له، وأخملْت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثم فزع إلى الدعاء والبكاء والبث والشكوى، فكان مما ناجى به الله أن قال: إلهي، أفكر في عفوك، فتهون عليَّ خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذِك فتعظُمُ عليّ بليتي. ثم قال: آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها، فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشريته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أُذن فيه بالنداء. ثم قال: آه من نار تُنضج الأكبادَ والكُلى، آه من نار نزاعة للشوى ، آه من غمرة من ملهباتِ لظى.
قال: ثم أنعم في البكاء، فلم أسمع له حساً ولا حركة، فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر، أوقظه لصلاة الفجر. قال أبو الدرداء فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحركته فلم يتحرك وزويته فلم ينزو، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والله علي ابن أبي طالب. قال: فأتيت منزله مبادرا أنعاه إليهم، فقالت فاطمة (عليها السلام): يا أبا الدرداء، ما كان من شأنه وما قصته؟ فأخبرتها الخبر، فقالت: هي والله - يا أبا الدرداء - الغشية التي تأخذه من خشية الله، ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه، فأفاق ونظر إلي وأنا أبكي، فقال: مم بكاؤك، يا أبا الدرداء؟ فقلت: مما أراه تنزله بنفسك. فقال: يا أبا الدرداء، فكيف لو رأيتني ودعي بي إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ وزبانية فظاظ! فوقفت بين يدي الملك الجبار، قد أسلمني الأحباء، ورحمني أهل الدنيا، لكنتَ أشدَّ رحمةً لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية. فقال أبو الدرداء: فوالله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)).
- لقد أعطى علي (ع) كلَّ حياته وذاته لله، ولهذا فإنه حين دخل عليه الأصبغ بن نباته عبّر له أمير المؤمنين عن تلك الطمأنينة التي يعيشها في اللحظات الأخيرة من حياته.. في لحظات الوداع التي ما كان بمقدور علي (ع) أن يستقبل فيها أحد لولا أنه سمع بكاء محبيه، ففي أمالي المفيد عن الأصبغ بن نباتة العبدي قال: (لما ضرب ابن ملجم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب « عليه السلام » غدونا عليه نفرٌ من أصحابنا أنا والحارث وسويد بن غفلة ، وجماعة معنا فقعدنا على الباب ، فسمعنا البكاء فبكينا، فخرج إلينا الحسن بن علي فقال : يقول لكم أمير المؤمنين : انصرفوا إلى منازلكم ، فانصرف القوم غيري ، واشتد البكاء من منزله فبكيت ، فخرج الحسن «عليه السلام» فقال: ألم أقل لكم انصرفوا ؟! فقلت: لا والله يا ابن رسول الله ما تتابعُني نفسي ولا تحملُني رجلي أن أنصرف حتى أرى أمير المؤمنين «صلوات الله عليه». قال : فتلبّث فدخل ولم يلبث أن خرج فقال لي: ادخل ، فدخلت على أمير المؤمنين «عليه السلام» فإذا هو مستندٌ معصوبُ الرأس بعُصابةٍ صفراء، قد نزف دمُه واصفرّ وجهُه، فما أدري أ وَجهُه أشدُّ اصفراراً أم العمامة، فأقبلْتُ عليه فقبَّلتُه، فبكيت، فقال لي: لا تبكِ يا أصبغ، فإنها والله الجنَّة).
بِالأَمْسِ عُدْتَ وَأَنْتَ أَكْبَرُ مَا احْتَوَى = وَعْيٌ وَأَضْخَمُ مَا تُخَالُ ظُنُوْنُ
فَسَأَلْتُ ذِهْنِي عَنْكَ هَلْ هُوَ وَاهِمٌ = فِيْمَا رَوَى أَمْ أَنّ ذَاكَ يَقِيْنُ
وَهَلْ الذِيْ رَبَّى أَبِي وَرَضَعْتُ مِنْ = أُمِّيْ بِكُلِّ تُرَاثِهَا مَأْمُوْنُ
أَمْ أَنَّهُ بَعُدَ المَدَى فَتَضَخَّمَتْ = صُوَرٌ وَتُخْدَعُ بِالبَعِيْدِ عُيُوْنُ
أَمْ أَنّ ذَلكَ حَاجَةَ الدُنْيَا إِلَى = مُتَكَامِلٍ يَهْفُو لَهُ التَكْوِيْنُ
فَطَلِبْتُ مِنْ ذِهْنِي يَمِيْطُ سَتَائِرَاً = لَعِبَ الغُلُوُّ بِهَا أَوْ التَهْوِيْنُ
حَتّى انْتَهَى وَعْيِي إِلَيْكَ مُجَرَّدَاً = مَا قَادَهُ المَوْرُوْثٌ وَالمَخْزُوْنُ
فَإِذَا المَبَالِغُ فِي عُلاَكَ مُقَصِّرٌ = وَإِذَا المُبَذِّرُ فِي ثَنَاكَ ظَنِيْنُ
وَإِذَا بِكَ العِمْلاَقُ دُوْنَ عيَانِهِ = مَا قَدْ رَوَى التَارِيْخُ وَالتَدْوِيْنُ
وَإِذَا الذِي لَكَ بِالنُفُوْسِ مَنْ الصَدَى = نَزْرٌ وَإِنَّكَ بِالأَشَدِّ قَمِيْنُ
وَلَقَدْ عَشِقْتُكَ وَاحْتَفَّتْ بِكَ أَضْلُعُي = جَمْرَاً وَتَاهَ بِجَمْرِهِ الكَانُوْنُ
وَفِدَاءَ جَمْرِكَ إِنّ نَفْسِي عِنْدَهَا = تَوْقٌ إِلَى لَذَعَاتِهِ وَسُكُوْنُ
- (اللّهُمَّ صَلِّ عَلى عَلِيٍّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَوَصِيِّ رَسُولِ رَبِّ العالَمِينَ، عَبْدِكَ وَوَلِيِّكَ وَأَخِي رَسُولِكَ وَحُجَّتِكَ عَلى خَلْقِكَ وَآيَتِكَ الكُبْرى وَالنَّبَأ العَظِيمِ صلاةً كثيرةً دائمة يا رب العالمين).