طارد الهموم ... محاضرة ليلة 19 من شهر رمضان .. استشهاد أمير المؤمنين (ع) - الشيخ علي حسن

(اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا اَمينَ اللهِ في اَرْضِهِ وَحُجَّتَهُ عَلى عِبادِهِ اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا اَميرَ الْمُؤْمِنينَ اَشْهَدُ اَنَّكَ جاهَدْتَ فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ وَعَمِلْتَ بِكِتابِهِ وَاتَّبَعْتَ سُنَنَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ حَتّى دَعاكَ اللهُ اِلى جِوارِهِ فَقَبَضَكَ اِلَيْهِ بِاخْتِيارِهِ وَاَلْزَمَ اَعْدآئَكَ الْحُجَّةَ مَعَ ما لَكَ مِنَ الْحُجَجِ الْبالِغَةِ عَلى جَميعِ خَلْقِهِ).
- من الأمور التي امتاز بها أمير المؤمنين (ع) في الجانب الفكري القرآني، أنه كان يفتح آفاقاً فكرية وأخلاقية وروحية وحتى شرعية من خلال آيات القرآن الكريم، ولا يتوقف عند حدّ المعنى المباشر للآية، بل يستخرج بالتدبر فيها مفاهيم ومعان قد تكون هي المعنية في مثل المروي عن أبي عبد الله (ع) عن آبائه (ع) قال: قال رسول الله (ص): (أيها الناس! إنكم في دار هدنة… فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن؛ فإنه شافع مشفع… وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم، وباطنه علم، ظاهره أنيق، وباطنه عميق).
- ويأتي هذا استجابة للدعوة الإلهية في مثل قوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24]، فكان علي (ع) يعين على فتح الأقفال للتدبر في آيات الكتاب الكريم.
- ولنلاحظ كيف قدّم لنا علي (ع) فكرة أخلاقية من خلال الآية التالية وبصورة قد لا تتبادر إلى ذهن من يقرأها.
- فعن الامام علي عليه السلام كما في مصادر سنية وشيعية ومن بينها تفسير الطبري: (عن أبي سلمان الأعرج، عن عليّ رضي الله عنه قال: إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك صاحبه، فيدخل في قوله: [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ])، [القصص:٨٣] وشراك النعل هو ما يُعبَّر عنه برباط الحذاء.
- قد يكون المعنى المتبادر الى الذهن من الآية اختصاصها بفئة معينة من الناس تمتلك من القدرة والسلطان ما يجعلها عُرضة للوقوع في فخ (العلو في الأرض) والاستكبار على الخلق، وبالتالي
تكون سبباً للفساد، لاسيما بلحاظ أنها جاءت بعد سرد قصة قارون واستكباره ثم هلاكه.
- إلا أن الإمام (ع) فتح لنا أفقاً أرحب، وخرج بالمسألة من نطاق الفهم الضيق إلى الشمولية في التطبيق من خلال الغوص في باطن الآية وتقديم هذا المثال البعيد جداً عن السياق، لكي يعطيها رحابة أكبر مما قد يتبادر إلى الأذهان، بالصورة التي قد نعتقد معها أنها لا تخاطبنا.
- بالطبع لا يقصد الإمام أن مجرد الرغبة في اقتناء الشيء هي السبب لدخوله ضمن من تستهدفهم الآية الشريفة، بل بلحاظ خصوصية رغبة الإنسان في الاستعلاء على غيره بذلك، بدليل كلمة (أجود) الواردة في الرواية والتي تبين حالة المقارنة والتنافس والتعالي، وإلا فان نفس الرغبة في اقتناء ما هو حسن أو جميل أمرٌ لا يعيبه الإسلام، وقد روي أن رجلاً قال للنبي الأكرم (ص): (يا رسول الله، إني أحب أن يكون ردائي حسناً ونعلي حسنة، أ فَمِن الكبر ذلك؟ فقال: لا، إن الله جميل يحب الجمال).
- وهذا ما التفت إليه الطبري حيث قال معلّقاً: (حديث علي محمول على مَن أحبّ ذلك ليتعظّم به على صاحبه، لا مَن أحبّ ذلك ابتهاجا بنعمة الله عليه).
- ومن أهم مداخل (العلو في الأرض) ما جاء في قوله تعالى: (ولا تمُدّنّ عيْنيْك الىٰ ما متّعْنا بِهِ أزْواجًا مِّنْهُمْ زهْرة الْحياةِ الدُّنْيا لِنفْتِنهُمْ فِيهِ ورِزْقُ ربِّك خيْرٌ وأبْقىٰ) [طه:١٣١].
- فهذا (المد للعينين) كان ومازال سبباً للكثير من المآسي التي يقع فيها الناس.. فكم من شخص كتب شيكات بلا رصيد ودخل السجن بسبب مدّ العين!
- وكم من أسرة تفككت بسبب ضغط الزوجة لتملّك ما هو أفضل مما يتملكه الآخرون بمدّ العين!
- وكم من سرقات وخيانات مالية وقعت بسبب مدّ العين!
- وكم من امرأة سلكت طريق الفواحش بسبب مدّ العين!
- وكم من جريمة ارتُكبت بسبب مدّ العين!
- وكم من إنسان نسي المسجد والصلاة ونسي الآخرة ونسي الموت ونسي ربه بسبب مدّ العين؟
- قدمت الآية الشريفة ضمنياً مفاتيح الحل لتجنب الوقوع في مآسي مدّ العين، ونلخّصها في النقاط التالية:
1. الإيمان بأنّ هذه المظاهر المادية ليست سوى زهرة جميلة عطرة، في ما تمثله الزهرة من وجود طارئ لا يطول دوامه، فهي تتوهّج وتجذب الأنظار ثم سرعان ما تخبو ثم تذروها الرياح: (واضْرِبْ لهُم مّثل الْحياةِ الدُّنْيا كماءٍ أنزلْناهُ مِن السّماءِ فاخْتلط بِهِ نباتُ الْأرْضِ فأصْبح هشِيمًا تذْرُوهُ الرِّياحُ وكان اللهُ علىٰ كُلِّ شيْءٍ مُّقْتدِرًا) [الكهف:45].
2. أن هذه المظاهر هي زينة، كما أن الزهرة زينة ومن الكماليات، وبالتالي فهي لا تمثل الأساس والأصل في التقييم، تماماً كمن يشتري بيتاً مبنياً على أسس ضعيفة وخدمات صحية وكهربائية ومواد عازلة غير متقنة، ولكنه يقتنيه انبهاراً بديكوراته الجميلة، فإنه سرعان ما يكتشف الخطأ الكبير الذي وقع فيه، وذلك حين تبدأ تلك العيوب بالظهور لتكلّفه الكثير، وتفقده الإحساس بلذة الاستقرار والحياة الهنئية فيه.
3. أن هذه المظاهر قد تنقلب وبالاً على الإنسان إن لم يُحسن التصرف بها، فهو مختبر بها ومحاسب عليها، وفق منطق الفتنة الوارد في الآية.
4. الإيمان بحكمة الله سبحانه في ما يقسمه بين عباده من رزق في الدنيا، والرضا بذلك، فالخير في ما اختاره الله سبحانه لعبده.
- عن عليٍّ «عليه السلام»: (نِعْمَ طارد الهموم: اليقين) اليقين بحقيقة الدنيا ومحدودية الحياة فيها، وبالآخرة والحساب والثواب والعقاب فيها، وبالعدالة الإلهية، وبالإحاطة الإلهية، وبالقضاء والقدر، وبطبيعة توزيع الأرزاق وبرحمة الله.
- ولذا قال «عليه السلام» أيضاً: (نِعمَ الطّاردُ للهمِّ: الاتّكالُ على القدر) والرضا بقضاء الله وقدره، فقد نفكر ونخطط ونعمل بالشكل الصحيح ولكن لا يأتي الرزق كما نريد.
- وفي وصية الإمام علي لابنه الحسن: (فَلَيْسَ كُلُّ طَالِب بِمَرْزُوق) فالرزق لا يرتبط فقط بمقدار ما تبذل من جهد، فمن الناس من يبذل جهداً أكبر من سواه، ومع هذا تجده لا يكسب بمقدار من يبذل جهداً أقل من ذلك.. بل تجد دكانين، أحدهما مزدحم بالزبائن والآخر فارغ وكلاهما يقدم ذات الخدمة وذات البضاعة. إذاً لابد أن ندرك أن هناك معادلة أخرى.
- ومن هنا أيضاً نفهم مسألة الدعاء للرزق والتوكل والرضا بقِسَم الله. فقد يقول قائل أنا أوفِّر كل لوازم النجاح، فلم الدعاء؟ في غفلة أن تدبير الأمور بيد الله، وأن التوفيق ليس إلا بالله.
- قال النبي شعيب «عليه السلام»: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ
رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّـهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
- وفي دعاء الافتتاح: (فإن أبطأ عنّي عَتَبْتُ بِجَهلي عليكَ، ولعل الذي أبطأ عنّي هو خيرٌ لي لعلمِك بعاقبةِ الأمور).. وهذه الجملة من روائع التعبير عن هذه الحقيقة الإيمانية التي نحتاج دائماً إلى تذكّرها، ونعم المعين هي على الهموم والمصاعب ومتغيرات الحياة.
5. أولوية مدّ العين إلى رزق الله في الآخرة، فهو خير وأبقى، وهي الدار التي من أجلها خُلق الإنسان، وهي دار البقاء، والدنيا دار الفناء.
ومن كلامه عليه السلام قبل شهادته: أَيُّهَا النَّاسُ، كُلُّ امْرِىءٍ لاَقٍ بِمَا يَفِرُّ مِنْهُ فِي فِرَارِهِ، وَالْأَجَلُ مَسَاقُ النَّفْسِ ، وَالْهَرَبُ مِنْهُ مُوَافَاتُهُ. كَمْ أَطْرَدْتُ الْأَيَّامَ أَبْحَثُهَا عَنْ مَكْنُونِ هذَا الْأَمْرِ، فَأَبَى اللهُ إِلاَّ إِخْفَاءَهُ، هَيْهَاتَ! عِلْمٌ مَخْزُونٌ! .... أَنَا بِالْأَمْسِ صَاحِبُكُمْ، وَأَنَا الْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ، وَغَداً مُفَارِقُكُمْ! غَفَرَ اللهُ لِي وَلَكُمْ! .... وَإِنَّمَا كُنْتُ جَاراً جَاوَرَكُمْ بَدَنِي أَيَّاماً، وَسَتُعْقَبُونَ مِنِّي جُثَّةً خَلاَءً، سَاكِنَةً بَعْدَ حَرَاكٍ، وَصَامِتَةً بَعْدَ نُطْقٍ. لِيَعِظْكُمْ هُدُوِّي، وَخُفُوتُ إِطْرَاقِي، وَسُكُونُ أَطْرَافِي ، فَإِنَّهُ أَوْعَظُ لَلْمُعْتَبِرِينَ مِنَ الْمَنْطِقِ الْبَلِيغِ وَالْقَوْلِ الْمَسْمُوعِ. وَدَاعِي لَكُم وَدَاعُ امْرِىءٍ مُرْصِدٍ لِلتَّلاَقِي! غَداً تَرَوْنَ أَيَّامِي، وَيُكْشَفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي، وَتَعْرِفُونَنِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِي وَقِيَامِ غَيْرِي مَقَامِي.
- نختم مجلسنا هذا بما جاء في زيارة أمين الله التي بدأت بها المجلس، وهي من أصح نصوص زيارة أمير المؤمنين (ع) ومروية عن سيد الساجدين (ع): (اَللّـهُمَّ فَاجْعَلْ نَفْسى مُطْمَئِنَّةً بِقَدَرِكَ راضِيَةً بِقَضآئِكَ مُولَعَةً بِذِكْرِكَ وَدُعآئِكَ مُحِبَّةً لِصَفْوَةِ اَوْلِيآئِكَ مَحْبُوبَةً فى اَرْضِكَ وَسَمآئِكَ صابِرَةً عَلى نُزُولِ بَلائِكَ شاكِرَةً لِفَواضِلِ نَعْمآئِكَ ذاكِرَةً لِسَوابِغِ آلائِكَ مُشْتاقَةً اِلى فَرْحَةِ لِقآئِكَ مُتَزَوِّدَةً التَّقْوى لِيَوْمِ جَزآئِكَ مُسْتَنَّةً بِسُنَنِ اَوْلِيآئِكَ مُفارِقَةً لاَِخْلاقِ اَعْدائِكَ مَشْغُولَةً عَنِ الدُّنْيا بِحَمْدِكَ وَثَنآئِكَ).