خطبة الجمعة 14 رمضان 1443: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: مفاسد الرشى

- قال تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:188].
- الرشوة -في المفهوم الفقهي الخاص- تخصّ الرشوة في مجال القضاء، وهو المورد المشار إليه في الآية السابقة كنوع من أنواع أكل مال الناس بالباطل.
- وهناك الرشوة في المفهوم العام الواسع، كصورة من صور الفساد السياسي أو الإداري أو غيرهما، لا في مجال القضاء فحسب، وهو سلوك منحرف ظهر في عهود مبكرة من التاريخ، وحفظت لنا المدوّنات القديمة صوراً من ذلك، كما في إحدى الألواح الطينية السومرية والتي تعود إلى ما قبل أربعة آلاف سنة، وفي إحدى البرديات المصرية التي تسرد أسماء المرتشين، وما حصلوا عليه.
ـــ ولعل في قصة النبي سليمان (ع) وملكة سبأ نموذجاً من نماذج الرشوة التاريخية، حيث قالت الملكة: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ، فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) [النمل:35-36].
ـــ أسمتها هدية، ولكنها في واقعها محاولة شراء ذمة.. وبمعنى آخر رشوة، ولكن على مستوى دولي.
ـــ الآية التي بدأتُ بها قدّمَت قاعدة عامة في قوله: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) واستفاد منها الفقهاء في موارد عديدة، ومن بينها حكم الرشوة بالمفهوم العام.
- ونجد في نهج البلاغة إشارة إلى مدى خطورة هذا الأمر، وذلك في الكتاب الذي كتبه الإمام علي (ع) إلى أمراء الأجناد بعد استخلافه، وفيه: (أَمَّا بَعْدُ، فإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا النَّاسَ الْحَقَّ فَاشْتَرَوْهُ، وَأَخَذُوهُمْ بِالْبَاطِلِ فَاقْتَدَوْهُ/ فافتدَوْه).
- وهذا للأسف ما بات ينتشر في بعض مفاصل الإدارات الحكومية، حيث يعرقل الموظف أو المسئول المعاملة، أو يؤخر إجراءاتها، أو يتم تضييع أوراقها، على أمل الحصول على شئ من المال أو ما شابه، وهو ما تلخّصه عبارة: (مَنَعُوا النَّاسَ الْحَقَّ فَاشْتَرَوْهُ)، وليس لهذا من مصير سوى (أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)... فهذا السلوك الفاسد يستبطن تدميراً تدريجياً لأي وجود مؤسساتي:
1. لإخلالها بالمساواة بين أصحاب المعاملات، مما يؤصّل حالة التخالف ومن ثم التصارع بين مكونات المجتمع، بدلاً من تأصيل التوافق والتكامل المجتمعي.
2. تضييعها الحقوق.
3. فقدان الثقة بالدولة وبمؤسساتها، بما في ذلك مؤسساتها القانونية المسئولة عن تطبيق العدالة.
4. تغليب المصلحة الفردية (مصلحة الموظف) على المصالح العامة.
5. فتح الباب أمام صور أخرى من الفساد.
- وهذا جانب مما ابتلي به الإمام الحسن (ع) في معاناته مع بعض القادة وكبار معاونيه حين صار بعضهم بين خيارين حاسمين، في القرارات الكبرى والمصيرية بالنسبة إليهم.. إما الدنيا، وإما الآخرة، في الوقت الذي تكون فيه الصورة جليّة.. فيختارون الدنيا لا عن جهل، بل لأنهم يحبون العاجلة: (إنَّ هَـٰؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا) [الإنسان:27]. ومن خلال هذا القرار المصيري القائم على قبول الرشى، انطلق هؤلاء إما لتقوية الباطل، أو لتحييد مواقفهم، ومن ثَمّ تَرْك الإمام الحسن (ع) مكشوفَ الظهر، وبلا سند.
- وسأتوقف في الخطبة الثانية قليلاً عند هذه النقطة من معاناة الإمام المجتبى (ع).