خطبة الجمعة 29 شعبان 1443: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: لباس التقوى

- تحدّث القرآن الكريم عن نوعين رئيسين من الألبسة:
1. اللباس بالمعنى الحقيقي: قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا) [الأعراف:26]، أي أن اللباس يقوم بمهمة ستر البدن والزينة أيضاً.
- ومنه الدرع الواقي في الحروب، قال تعالى في جملة حديثه عن داود (ع): (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ) [الأنبياء:80]، وبيّن ذلك بشكل أوضح حيث قال: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) [سبأ:10-11] أي اعمل دروعاً طويلة وافية لحماية الجسد، وأجعلها متناسبة الحلق بحيث تكون مرنة ومانعة لاختراق الأنصال الحادة.
2. اللباس بالمعنى المجازي: فعندما تحدّث عن العلاقة بين الزوجين قال: (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) [البقرة:187] بلحاظ أنّ كلاًّ من الزوجين يساهم في حفظ الآخر من ارتكاب الفاحشة من خلال العلاقة الشرعية التي تجمع بينهما، كما تحفظ الثياب جسد الإنسان وتقيه من البرد، والحر، وانكشاف السوأة، وغير ذلك.
-وعندما تحدث عن تقسيم اليوم إلى ليل ونهار قال: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا) [الفرقان:47] فالظلام الذي يأتي مع الليل بمثابة اللباس الذي يستر الجسد.
- وهكذا نجد أن من الأوضاع السلبية ما قد تحيط بالإنسان وتشمل كل شئونه إحاطة اللباس بالجسد، ولذا قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل:112].
- ومن اللباس مجازاً: التقوى، فقد قال الله تعالى بعد أن ذكر اللباس من النوع الأول: (وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف:26].
- وكي أقرّب هذا المعنى سأتوقف قليلاً عند جانب من علاقة الإنسان بالنار.
- النار من الظواهر الطبيعية التي يخاف منها الإنسان لشدة آثارها المدمرة وسرعة انتشارها، ولهذا الغرض بدأ الإنسان بالتفكير في مواجهة الحرائق بصورة منظمة. ويُذكَر بأن أوّل عملية تنظيم لذلك تم على يد الرومان قبل أكثر من ألفي سنة، بينما تم استحداث أول فرقة إطفاء بلدية منظمة في العالم في إدنبرة باسكتلندا في عام 1824.
- وضمن عملية تطوير مكافحة الحرائق من قبل الإطفائيين، تم في القرن العشرين تطوير الألبسة الواقية لهم، وإن كانت صناعة الأقمشة المضادة للنار تعود إلى القرن السابع عشر الميلادي.
- وكما في البين لباس بالمعنى الحقيقي والمجازي، كذلك في الحياة نار بالمعنى الحقيقي والمجازي... الحسد.. الحقد.. الغضب.. الغيرة المبالغ فيها.. كل هذه من النيران المجازية التي تُحرق قلب الإنسان وروحَه.. وهكذا هي حال المعاصي والذنوب هي نيران معنوية.
- أي أن البُعد الإيماني والمعنوي عند الإنسان قابل لأن يحترق بها، والذي يمكنه أن يحميه منها هو التقوى، تماماً كلباس الإطفائيين الواقية من النار.
- ومن هنا وُصف لباس التقوى بأنه خير وأهمّ من اللباس بالمعنى الحقيقي، لأن الإنسان أكثرُ حاجة إليه منه، لأنّ سلوكَه القويمَ في هذه الحياة، ومصيرَه السعيدَ الأبديّ في الآخرة مرهونٌ به.
- نيران المعاصي تحيط بالإنسان في كل مكان، وهي حاضرة في كل زمان، لذا فهو بحاجة دائمة
إلى لباس التقوى كي تبقى حامية له من نيران المعاصي.
- ومع وقوفِنا على أبواب شهر رمضان المبارك نتوقف متدبّرين خاشعين من جديد مع قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183]، وهذا يعني أنّ تشريع الصيام في شهرَ رمضان - وبما تساوقه من الصور المكثّفة من العبادة والإقبال على كتاب الله تعالى وغير ذلك من صور الطاعات – يأتي ليؤمِّن لنا ذلك اللباس الواقي من نيران المعاصي والآثام شريطةَ أن نعيَ حقيقة هذا التشريع وفلسفتَه، وأنْ نعيشَ الصيامَ وأجواءَ شهرِ رمضان كما يُحبّ الله عزوجل لها أن تكون، لا كما يريد لها أباطرةُ الفساد والإفساد الإعلامي الذين يُغرقون القنوات الفضائية بكل صور الملهِّيات والمحرَّمات وقد أعدّوا لذلك العُدّة على مدى شهور من العمل الدؤوب.. ولا كما يريد لها أباطرة الفتن ومثيري الأحقاد والنزاعات، وكأنَّهم -جميعاً- يُعلنون الحربَ على الإرادة الإلهية في أنْ يكونَ شهرُ
رمضان شهرَ الطاعةِ والمغفرةِ والتراحُمِ والتقوى. (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى:7]، فأيٌّ من الفريقين سنختار؟