خطبة الجمعة 22 شعبان 1443: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: جريمة القذف

- كما قرّر القرآن كرامةَ الإنسان، فإنّه بيّن مجموعةً من الموارد التي تُعتبر تعدّياً غير مقبول على هذه الكرامة، كالتعدّي على حقّه في الحياة، ولذا حرّم القتل دون سبب مسوِّغ كالقِصاص مثلاً... وكالتعدِّي على ممتلكاته، ولذا نهى عن أكل مال الناس بالباطل... وكالتعدّي على خصوصيته، ولذا نهى عن التجسس... وكالتعدي على شخصيته وسمعته، ولذا نهى عن السخرية والغيبة.
- ومن بين الموارد التي تُعتبر تعدِّياً على شخصيّة الإنسان وكرامته وسُمعته مورد الاتهام بارتكاب فاحشة الزنا من دون إقامة البيّنة بما يُمثّل الدليل الأكيد على ذلك.
- بل شدّد في خصوص هذه البيّنة، وجعلها استثنائية، حيث اشترط أن يكون الشهود للفعل الفاحش بالرؤية الحسّية التفصيلية التي لا تترك أيّة شبهة في أكثر التفاصيل دقّةً، حذراً من خطأ العين في ما ترى، وأن يكونوا أربعة عدول، بينما اكتفى في موارد كثيرة بشاهدين عدلين فقط، ودلالة هذا التشديد واضحة لا لبس فيها.
- قد يتصوّر البعض أن إطلاق هذه التهمة بحقّ الناس -من دون وجود البيّنة- ذنب يمكن تجاوزه بذكر الاستغفار مثلاً، والحال أننا لو تتبعنا الآيات القرآنية لوجدنا أن التبعات عظيمة وخطيرة:
1. (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شهداء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) [النور:4]. وهو ما يُعرف شرعاً بعنوان حدّ القذف.
2. (وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً) [النور:4]. في أية قضية، سواء ترتبط بمثل هذه المسألة أو في ما له علاقة بالوصية، أو نزاع زوجين، أو أي أمر آخر.
- قد يقول قائل: ما أهمية عدم قبول شهادة هذا الشخص أبداً؟ والجواب أن هذا الأمر يعني الحكم بإسقاط اعتبار كلام هذا الإنسان وأخباره، وبالتالي إسقاط اعتباره الاجتماعي لأنه فاسق.
- بحسب ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، فإن معاوية لما اتخذ قرار محاربة شيعة علي (ع) سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، كانت واحدة من الإجراءات تخص رفض شهادتهم في القضاء، قال: (وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق ألّا يجيزوا لأحدٍ من شيعة عليٍّ وأهل بيته شهادة).
- واستعمل هذا السلاح أحد القضاة المتعصبين مذهبياً مع أحد أصحاب الإمام الصادق (ع)، وهناك أكثر من رواية في تحديد هوية الطرفين، والمهم هنا هي الفكرة نفسُها، أنّ منع أحد من أن يشهد كان تسقيطاً اجتماعياً حساساً، وهو نوع من النبذ الاجتماعي.
3. (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور:4]. هؤلاء عصاة، وليسوا من أهل الدين والتديّن.
4. (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [النور:23]. هؤلاء مُبعدون عن رحمة الله، كما أبعد إبليس عنها.
5. (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور:23].
6. (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النور:24]. هؤلاء ألقوا تهمهم دون إقامة الدليل، ولكن يوم القيامة ستكون جوارحُهم هي الدليل على جريمتهم، فلا مجال للإنكار أو التهرّب من المسئولية، وحينئذ ستكون الفضيحة والخزي.
7. (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) أي سينالون الجزاء العادل الثابت الذي يتطابق مع طبيعة الجريمة التي اقترفوها ضد الناس الأبرياء (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور:25].
- وكل هذا التشديد لا يأتي لحفظ شخصية الأفراد فحسب، بل ناشئ أيضاً عن أهمية الحفاظ على أمن المجتمع وتماسكه وسلامته، ورفع كل ما من شأنه العبث والإخلال به وإثارة الفتن فيه.
- ويبقى -كالعادة- باب التوبة الصادقة، التوبة النصوح، مفتوحاً: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النور:5] ولكن هذه التوبة لا تتحقق إلا بالإصلاح، ومن الإصلاح أن يقوم من خاض في أعراض الناس بتبرئة المتهم وإعادة الاعتبار إليه.
- أي أن هذه التوبة لا تتحقق بمجرد أن يأتي بذكر الاستغفار وهو يدير مسبحته، دون شعور بالندم الحقيقي والشديد، وما لم يعمل على إصلاح ما أفسد من سمعة الناس، واتخذ القرار الصارم بعدم العود مجدداً إلى مثل ذلك.. وإلا فستكون محاولة خداع لا توبة، والله لا يُخدع بمثل ذلك.
- ولينتبه البعض حين تفلت أعصابهم فتصدر عنهم الشتائم، فقد تتضمّن اتهاماً للطرف الآخر بما يصل مستوى القذف، ولذا قد يكون مشمولاً حينئذ فيما ذكرناه.
- لقد كرّم الله عز وجل الإنسان، وجعل له حُرمة، وهذه الحرمة قد تكون في جسده، وقد تكون في ممتلكاته، وقد تكون في حقوقه. ومن بين حرمات الإنسان – لاسيما المؤمن- شخصيتُه وسمعتُه، ولذا فقد حصّن الله تعالى ذلك بمجموعة من التشريعات والتوصيات والآداب، من بينها التشريع الخاص باتهام الآخرين بارتكاب الفاحشة دون إقامة بالبينة على ذلك، وشدّد في عقوبة القاذف لأعراض الناس في الدنيا والآخرة، واعتبر ذلك فسقاً وخروجاً من حالة الالتزام بالدين، وألحق به اللعنة في الدارين ما لم يتب! فالحذر الحذر من مغبّة الوقوع في هذه الجريمة الخطيرة بحق النفس، وحق الآخرين، وحق أمن المجتمع.