ما الصافنات الجياد؟ وماذا فعل النبي سليمان بها حين شغلته عن ذكر الله؟ سورة ص 30-40


{ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ، فَقَالَ إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ ، رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ } 31-33
- يتعلق { إذْ عُرِضَ } بــــ{ أوَّابٌ } الواردة في الآية 30. وكأن الآيات تقدم مثالاً على كثرة أوبته بما يؤكد هذه الحقيقة عنه (ع)، فهي بمثابة التعليل لوصفه بذلك.
- عرَض سُواس خيله إياها عليه، وذلك في وقت العَشيّ، أي من العصر إلى الغروب.
- وهذا الوقت هو وقت افتقاد الخيل والماشية بعد رواحها من مراعيها ومراتعها.
- وذكر العشي هنا ليس لمجرد التحديد الزمني، بل لارتباط ذلك بما سيأتي في الآية اللاحقة حيث يقول تعالى: (حَتَّىٰ تَوَارَتْ) أي الشمس (بِٱلْحِجَابِ) أي الأفق الغربي الذي حجبها عنه، واظلمت الأجواء تدريجياً. وتم تشبيه الشمس بالمرأة حين تحتجب في بيتها.
- {ٱلصَّافِنَاتُ} هي التي تقف على ثلاث قوائم، و ترفع إحدى يديها حتى تكون على طرف الحافر. وتلك من علامات خفة الفرس وكرم أصله.
- {ٱلْجِيَادُ} جمع جواد، وهو الفرس ذو الجَودة.
- كان النبي سليمان (ع) مولَعاً بالإِكثار من الخيل والفرسان، فكانت خيله تعد بالمئات، وقد عُثر في مدينة مجدو في شمال فلسطين على إسطبل له يسع 450-500 من الخيل، وفيه فناء دائري مبلط ببلاط من الحجر الجيري، ويخترق وسط كل إسطبل ممر عرضه عشرة أقدام، وقد رصف بصخور خشنة ليحول دون انزلاق الخيل، ووراء نتوءات الأحجار، مرابط فسيحة عرض كل منها عشرة أقدام، وقد كشفت نظائر لإسطبلات مجدو هذه وذلك في عدة مدن أخرى.
{فَقَالَ إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ} {ٱلْخَيْر} المال النفيس، كما في قوله تعالى{إنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة:180]، ونقول: (فلان عنده خير). والخيل من المال النفيس.
- التركيب الأصلي للجملة: (أحببتُ الخير حُبًّا) كقوله تعالى {وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا} [القمر:12]، فالأصل فيها: (وفجرنا العيون من الأرض).
{عَن ذِكْرِ رَبِّي} أحببت الخير حبّاً، فجاوزت ذكر ربي.
- والمعنى عُرضت عليه خيله الصافنات الجياد، فاشتغل بأحوالها حباً فيها حتى غربت الشمس ففاتته صلاة كان يصليها عصراً قبل غروب الشمس، فقال عقب عرض الخيل وقد انصرفت: إني أحببتُ الخيل فغفلت عن صلاتي لله إلى أن غربت الشمس. وكلامه هذا خبر مستعمل في التحسر كقول السيدة أم مريم (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ) [آل عمران:36].
- {رُدُّوهَا عَلَيَّ} الخطاب لسواس خيله. أي أرجعوا الخيل إليّ.
- {فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ} فشرع يمسح مَسحاً بسوقِ الخيل وأعناقِها، إكراماً لها ولحبها.
- فهو يريد أن يبيّن درجة حبه للخيل، هذا الحب الذي شغله عن ذكر ربه في ذلك الوقت، فاستدعاها من جديد ليمسح عليها كما يفعل محبو الخيل.
- وهو أواب لأنه كان قد خَصص وقت العشي من كل يوم لذكر الله، وما جرى في ذلك اليوم مجرد استثناء، وصدر عنه ما يدل على التحسر على ضياع فرصة الذكر.
- والمسح في اللغة إمرار اليد على الشيء. وإذا قُصد به غير ذلك كالضرب بالسيف فهو استعمال مجازي يحتاج إلى قرينة تصرفنا عن المعنى الحقيقي.
- وقد فتحت هذه الآية شهية بعض المأوّلين فتركوا المعنى الحقيقي المتناسب مع سلوك هذا النبي، وقالوا بأن المراد هو الضرب بالسيف... لماذا؟
- لأنه أراد أن يكفّر عن ذنبه بالتقصير في شأن الذكر التي قالوا أنها الصلاة التي فاتته.
- قال الطبري في تفسيره: (واختلف أهل التأويـل فـي معنى مسح سلـيـمان بسوق هذه الـخيـل الـجياد وأعناقها، فقال بعضهم: معنى ذلك أنه عقرها وضرب أعناقها... قال الـحسن: قال لا والله لا تشغلـينـي عن عبـادة ربـي آخر ما علـيك... فَكَسف عراقـيبها، وضرب أعناقها.... عن السديّ: فضرب سوقها وأعناقها.... عن ابن عبـاس، قوله: { فَطَفِقَ مَسْحاً بـالسُّوقِ والأعْناقِ } يقول: جعل يـمسح أعراف الـخيـل وعراقـيبها: حبـا لها. وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن عبـاس أشبه بتأويـل الآية، لأن نبـيّ الله (ص) لـم يكن إن شاء الله لـيعذّب حيواناً بـالعرقبة، ويهلك مالاً من ماله بغير سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بـالنظر إلـيها، ولا ذنب لها بـاشتغاله بـالنظر إليها).
- وعليه فيمكن الرد على هذا القول كالتالي:
1. الاستعمال المجازي خلاف الأصل، ولا سبب موجب لترك المعنى الحقيقي.
2. لا توجد صلاة فريضة في الشريعة الموسوية في هذا الوقت، فلو كان المقصود من الذكر هنا خصوص الصلاة، فهي مندوبة، وبالتالي لم يصدر عنه عصيان يستوجب قتل الخيل.
3. ما ذنب الخيل لكي تُقتَل، وبهذه الصورة الوحشية بقطع سيقانها وأعناقها، في حين أن الفرض أنه هو المخطيء؟ وإذا كان نسيانه الذكر في وقت العشي جريمة ندم عليها، فإن قتله الخيل بهذه الصورة الوحشية جريمة أكبر.
- ولذا قال بعضهم لما استشعروا أن هذا فساد في الأرض وإضاعة للمال، بأنه أراد ذبحها ليأكلها الفقراء، لأن أكل الخيل مباح عندهم وبذلك لم يكن ذبحها فساداً في الأرض.
- ومن المفسرين من اعتبر أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، وأن الترتيب الصحيح كي يتوافق مع حالة الحسرة كالتالي: [إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ، رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ، فَقَالَ إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ] فتحسر على ما فاته.
- ومنهم من جعل المسح استعارة للتوسيم بسمة الخيل الموقوفة في سبيل الله، بكي نار أو كَشط جلد، لأن ذلك يزيل الجلدة الرقيقة التي على ظاهر الجلد، فشبهت تلك الإِزالة بإِزالة المَسح ما على ظهر الممسوح من ملتصق به.
- ومن لطيف ما نقل الطبري أنه: (ذُكر أنها كانت عشرين فرساً ذوات أجنـحة).