لماذا ذكر الله قصص سليمان وتجربته في الحكم؟ سورة ص 30-40


{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } 30
- هذا هو المثال الثاني الذي قدمته السورة للنبي (ص) حول تغير مسار الأحداث لصالح الأنبياء بعد الابتلاء والأوبة إلى الله والتحمل والصبر والاعتراف بالتقصير والتوبة، لتصبح لهم الكلمة العليا، وليدعوا إلى الإيمان والعمل الصالح من خلال الموقع المتقدم في المجتمع، وما لهذا الموقع المتقدم من ابتلاءات خاصة به... وكان الأول متمثلاً في داود (ع).
- وقيل أن هذا ليس مثالاً منفرداً، بل هو تتمة لمثال داود، على اعتبار أبوته لسليمان، ولأن حال سليمان (ع) لا يشبه حال نبينا (ص)، ولذلك لم تفتتح قصة سليمان بعبارة (واذكر)، كما افتتحت قصة داود ثم قصة أيوب... فجاء ذكره كمصداق من مصاديق المنن الإلهية على داود، لا على سبيل القصة المنفردة والمثال الثاني.
- ولكن يمكن القول أن سليمان دخل في ابتلاءات متعددة حال حكمه، فهو نموذج لابتلاءات القائد والحاكم يقدَّم إلى النبي كتجربة يستفيد منها لاحقاً على مستوى إدارة الدولة، وعدم البدء بكلمة (واذكر) لأنه امتداد لداود (ع) على خلاف أيوب (ع).
- بدأت الآيات بالثناء على سليمان (نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)، والأوّاب مبالغة في الآيب أي كثير الأوْب، أي الرجوع إلى الله بقرينة أنه مادحه. والمراد من الأوب إلى الله الأوب إلى أمره ونهيه، أي إذا حصل له ما يبعده عن ذلك تذكر فآب، أي فتاب.
- وختمت كذلك بالثناء عليه: (وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) [ص:40] وقد وردت مثلها في الآية 25 بشأن والده داود (ع).
- والزلفة والزلفى: المنزلة والحظوة.. والمآب: المرجع، وتنكير «زلفى» و«مآب» للتفخيم. مع ملاحظة وجود التأكيد بحرف التوكيد (إن) وباللام، وتقديم الجار والمجرور (له)، مع مزيد من التفخيم من خلال كلمة (عِندَنَا) إذ كان يمكن أن يقول: (وإن له لزلفى وحسن مآب).
- وهو يأتي كردّ على ادعاء التنخ (العهد القديم) في ذم سليمان من عدة جهات، من بينها:
1. مولده: ذكرنا من قبل القصة الكتابية المتعلقة بداود وزوجة أوريا، وأنها حبلت منه قبل مقتل زوجها، وتقول هذه القصة أن ناثان النبي أخبر داود أن هذا المولود سيموت بأمر الله بدلاً عنه: (وَكَانَ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ أَنَّ الْوَلَدَ مَاتَ، فَخَافَ عَبِيدُ دَاوُدَ أَنْ يُخْبِرُوهُ بِأَنَّ الْوَلَدَ قَدْ مَاتَ... وَرَأَى دَاوُدُ عَبِيدَهُ يَتَنَاجَوْنَ، فَفَطِنَ دَاوُدُ أَنَّ الْوَلَدَ قَدْ مَاتَ.... فَقَامَ دَاوُدُ عَنِ الأَرْضِ وَاغْتَسَلَ وَادَّهَنَ وَبَدَّلَ ثِيَابَهُ وَدَخَلَ بَيْتَ الرَّبِّ وَسَجَدَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى بَيْتِهِ وَطَلَبَ فَوَضَعُوا لَهُ خُبْزًا فَأَكَلَ. فَقَالَ لَهُ عَبِيدُهُ: «مَا هذَا الأَمْرُ الَّذِي فَعَلْتَ؟ لَمَّا كَانَ الْوَلَدُ حَيًّا صُمْتَ وَبَكَيْتَ، وَلَمَّا مَاتَ الْوَلَدُ قُمْتَ وَأَكَلْتَ خُبْزًا». فَقَالَ: «لَمَّا كَانَ الْوَلَدُ حَيًّا صُمْتُ وَبَكَيْتُ لأَنِّي قُلْتُ: مَنْ يَعْلَمُ؟ رُبَّمَا يَرْحَمُنِي الرَّبُّ وَيَحْيَا الْوَلَدُ. وَالآنَ قَدْ مَاتَ، فَلِمَاذَا أَصُومُ؟ هَلْ أَقْدِرُ أَنْ أَرُدَّهُ بَعْدُ؟ أَنَا ذَاهِبٌ إِلَيْهِ وَأَمَّا هُوَ فَلاَ يَرْجعُ إِلَيَّ». وَعَزَّى دَاوُدُ بَثْشَبَعَ امْرَأَتَهُ، وَدَخَلَ إِلَيْهَا وَاضْطَجَعَ مَعَهَا فَوَلَدَتِ ابْنًا، فَدَعَا اسْمَهُ سُلَيْمَانَ، وَالرَّبُّ أَحَبَّهُ، وَأَرْسَلَ بِيَدِ نَاثَانَ النَّبِيِّ وَدَعَا اسْمَهُ «يَدِيدِيَّا» مِنْ أَجْلِ الرَّبِّ). أي محبوب يهوه. وسليمان يعني رجل السلام أو مُسلَّم.
- فهذه الرواية تدعي أنه الابن الثاني لزوجة المغدور به أوريا، وهذه أوّل إساءة.
2. الميل إلى الشرك والأصنام إرضاء لنسائه المشركات: (وَأَحَبَّ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ نِسَاءً غَرِيبَةً كَثِيرَةً مَعَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ: مُوآبِيَّاتٍ وَعَمُّونِيَّاتٍ وَأَدُومِيَّاتٍ وَصِيدُونِيَّاتٍ وَحِثِّيَّاتٍ، مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ قَالَ عَنْهُمُ الرَّبُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: «لاَ تَدْخُلُونَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ لاَ يَدْخُلُونَ إِلَيْكُمْ، لأَنَّهُمْ يُمِيلُونَ قُلُوبَكُمْ وَرَاءَ آلِهَتِهِمْ». فَالْتَصَقَ سُلَيْمَانُ بِهؤُلاَءِ بِالْمَحَبَّةِ. وَكَانَتْ لَهُ سَبْعُ مِئَةٍ مِنَ النِّسَاءِ السَّيِّدَاتِ، وَثَلاَثُ مِئَةٍ مِنَ السَّرَارِيِّ، فَأَمَالَتْ نِسَاؤُهُ قَلْبَهُ. وَكَانَ فِي زَمَانِ شَيْخُوخَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّ نِسَاءَهُ أَمَلْنَ قَلْبَهُ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ كَامِلًا مَعَ الرَّبِّ إِلهِهِ كَقَلْبِ دَاوُدَ أَبِيهِ. فَذَهَبَ سُلَيْمَانُ وَرَاءَ عَشْتُورَثَ إِلهَةِ الصِّيدُونِيِّينَ، وَمَلْكُومَ رِجْسِ الْعَمُّونِيِّينَ. وَعَمِلَ سُلَيْمَانُ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَلَمْ يَتْبَعِ الرَّبَّ تَمَامًا كَدَاوُدَ أَبِيهِ. حِينَئِذٍ بَنَى سُلَيْمَانُ مُرْتَفَعَةً لِكَمُوشَ رِجْسِ الْمُوآبِيِّينَ عَلَى الْجَبَلِ الَّذِي تُجَاهَ أُورُشَلِيمَ، وَلِمُولَكَ رِجْسِ بَنِي عَمُّونَ. وَهكَذَا فَعَلَ لِجَمِيعِ نِسَائِهِ الْغَرِيبَاتِ اللَّوَاتِي كُنَّ يُوقِدْنَ وَيَذْبَحْنَ لآلِهَتِهِنَّ. فَغَضِبَ الرَّبُّ عَلَى سُلَيْمَانَ لأَنَّ قَلْبَهُ مَالَ عَنِ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي تَرَاءَى لَهُ مَرَّتَيْنِ، وَأَوْصَاهُ فِي هذَا الأَمْرِ أَنْ لاَ يَتَّبعَ آلِهَةً أُخْرَى، فَلَمْ يَحْفَظْ مَا أَوْصَى بِهِ الرَّبُّ).
- وإذا كان هذا النص لا يبين تراجعاً من سليمان إلى وفاته، إلا أن نصاً آخر في التنخ يذكر تراجعه، وقد جاء في قاموس الكتاب المقدس: (وإذا كان لنا أن نستنتج شيئًا من سفر الجامعة – باعتبار أن سليمان هو كاتبه – فإننا يمكن أن نرى أن سليمان – بعد أن جاز في فترات من الضعف والانحراف والإحباط – استطاع أن يعود إلى إيمانه بالله الواحد، وبخاصة أن جميع الكتابات المنسوبة إليه تحمل طابع التوحيد الجازم).