ما هي الرسائل الأخيرة لسورة الصافات؟ 161-182

- بعد أن قدمت السورة تجارب مجموعة من رسل الله (ع) لتأكيد الحقيقة التالية: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات:171-173]، بدأت بالهجوم على المشركين في معتقداتهم السخيفة: (أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ، وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [151-152]، حين افتروا أن الملائكة بنات الله.
- إن الله منزه عن هذا الافتراء الذي وصفوه به: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [159]، والمخلَصون من الناس لا يصفونه بمثل هذا الكلام، ولذا فإن قولهم يمثّل الصدق حين وحّدوا الله سبحانه: (إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) [160] فإنهم غير كاذبين. ثم جاء الوعيد الأخروي:
- (فَإِنَّكُمْ) أيها المشركون (وَمَا تَعْبُدُونَ) مع معبوداتكم (مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ) لن تستطيعوا أن تفتنوا وتقنعوا وتخدعوا وتحرفوا أحداً عن توحيد الله عزوجل (إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ ٱلْجَحِيمِ).
(وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) [164-166]
- بدأت السورة بالقسم بأصناف من الملائكة مع نفي ضمني بكونهم آلهة كما زعم المشركون لأن الحقيقة تتمثل في أنه لا إله إلا الله: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا، إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ، رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ)[1-5].
- ثم جاءت السورة في خواتيمها لتتحدث عن فرية ألوهية الملائكة وانتسابهم إلى الله بشيء من التفصيل، وأن مصير من يدّعي ذلك هو الجحيم.
- لذا جاءت الآيات الثلاث السابقة لتنقل عن الملائكة ما يرتبط بحقيقتهم:
1. (وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ) لكل واحد منا دور ومهام معينة يقوم بها بأمر من الله، فنحن في خدمة الله سبحانه، مطيعون لأوامره، منفّذون لها دون ترديد، فهل يتناسب هذا وادعاء ألوهيتنا؟
2. (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) وكأنهم في حالة اصطفاف عسكري انتظاراً لصدور الأوامر الإلهية لتنفيذها، في حالة تمثّل الخضوع التام، فهل يتناسب هذا وادعاء ألوهيتنا؟ وقد أقسم الله في بداية السورة بالصافات صفاً.
3. (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) إذ ننزه الله عن كل ما لا يليق بساحة قدسه، وعلى رأس ذلك وجود شريك له في الألوهية والربوبية، فهل يتناسب هذا وادعاء ألوهيتنا؟
(وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ، لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنْ الأَوَّلِينَ، لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [167-170]
- هذا قول مشركي قريش الذي واجهوا به النبي (ص) في تبرير لشركهم، إذا كانوا يقولون لو أن الله أنزل علينا كتاباً من الكتب التي أنزلها على الأمم السابقة، بلغة غير عربية كلغة التوراة أو الإنجيل، أو من تلك اللغات الخاصة بالأمم المتحضرة كاليونان والروم والفرس، ولو أن المبعوث إلينا أجنبي يتحدث بلغة من تلك اللغات لصدقنا ولكنا قد أقررنا بالحقيقة وآمنا بوحدانيته ولم نشرك به أحداً (عقدة الأجنبي) و(لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) الذين يستجيبون للوحي النازل عليهم من الله.
- (فَكَفَرُوا بِهِ) بالذكر النازل عليهم وهو القرآن ولذا استحقوا أن يصلوا الجحيم (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)[171-173]
- كما ذكرت في بداية حديثي أن هذه هي خلاصة رسالة الآيات التي تحدثت عن تجارب المرسلين، فجاءت هنا لتأكيد وتوضيح الفكرة.
- ومعنى (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ) أي وعدناهم بذلك منذ بداية تكليفهم بالرسالة، ووعد الله حق لا خُلف له ولا تبديل والوعد هو (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ).
- وفي الآيتين تأكيد بعد تأكيد من خلال (إنّ) (اللام) (الضمير هم)، إذ كان بالإمكان أن يقول: (هم المنصورون وهم الغالبون) ولكن التأكيد والحتمية استدعت مثل هذا الأسلوب البياني القاطع.
- والجند الذين كتب الله لهم الغلبة هم المؤتمِرون بأمر الله الذين يعينون رسله في أداء مهامهم.
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) [174-175]
- أعرض يا رسول الله عن الاهتمام بتهاويل المعاندين وإثاراتهم التي لا يريدون من ورائها الوصول إلى الحقيقة بل تضييعها وإضاعة وقتك وجهود، واستمر في مهامك الرسالية في دعوة الناس إلى توحيد الله، وسيأتي الوقت الذي يتحقق فيه الوعد بالنصر والغلبة على المعاندين، وسوف يشهدون ذلك، على الرغم من أن أوضاعك الحالية لا توحي بذلك.
(أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ، فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ) [176-177]
- كان المشركون – ومن موقع التحدي والاستهزاء وإظهار قناعتهم ببطلان رسالة النبي – يطالبون بإنزال العذاب عليهم إن كان صادقاً وهم الكاذبون، وحيث أن الله لم ينزل عليهم العذاب فعلاً كما أنزله على أمم سابقة، فإن هذا كان يقوّي موقفهم وادعاءاتهم.
- فجاء التساؤل الاستنكاري، هل فقدوا عقولهم باستعجالهم بإنزال العذاب عليهم؟ ألا يخشون سوء هذا العذاب لو نزل بساحتهم بعد إنذارهم؟ لو وقع هذا فسيرون أيّ صباحٍ مشؤوم هو هذا الصباح المظلم المرعب، الشديد في عذابه.
(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) [178-179]
- لذا، إن عليك يا رسول الله أن تقابل تحدّيهم هذا واستهزائهم بالإهمال وانتظار تحقق الوعد الإلهي الذي سيرونه بأم أعينهم، كما ستراه أنت.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[180-182]
- والخلاصة أن الله عزيز لا غالب له ولا يؤثر شيء من كلامهم فيه، وهو منزه عن افتراءاتهم الشركية.
- وتحية منه لرسله، ووعد بحياة أخروية صفتها السلام بعد صراعهم مع المشركين.
- (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) تختزن هذه الآية عدة رسائل:
1. التعبير عن إيمان بأن لا أحد يستحق هذا الحمد سواه.
2. التسليم لأمر الله على كل حال ولو في المكروه.
3. إقرار بأنه رب العالمين الذي يدير الوجود بحكمته، فإذا لم ينزل العذاب على المشركين، فإن هذا لا يعني عدم قدرته على ذلك أو نفي ربوبيته، بل إن حكمته اقتضت ذلك بما يتلاءم مع كونه رباً للعالمين.