قصة النبي يونس ... لماذا ألقي في البحر ؟ الصافات 139-148


- بعد أن ذكرت السورة تجربة نوح فإبراهيم فموسى وهارون فإلياس فلوط (ع)، وبيان أن البقاء والامتداد والنصر للرسالة الإلهية وإن كان ظاهر الحسابات المادية خلاف ذلك، مهما كاد أعداء الرسالة ومكروا وعاندوا واستكبروا، انتقلت للحديث عن تجربة النبي يونس (ع) التي يتبيّن منها أن صعوبة المسئولية الرسالية وضخامة عدد الطرف المقابل وشدة التحدي لا يعني بالضرورة الفشل، فقد نجح يونس (ع) في نهاية المطاف في هداية القوم الذين أرسل إليهم، وهذه رسالة أخرى إلى النبي (ص) وإلى المؤمنين برسالته من واقع تجربة سابقة.
- القصة المتعارف عليها أنه أرسل إلى نينوى، فلما مكث عندهم مدة من الزمن خرج مغاضباً من عدم إيمانهم، ثم ابتلاه الله بالحوت الذي ابتلعه، ثم تاب الله عليه وألقاه الحوت على الساحل، فعاد ليجد أن القوم قد تابوا إلى الله سبحانه.
- إلا أن في البين رواية أخرى تقول أن الله أمره بالذهاب إلى نينَوى للقيام بمهمة رسالية مع بني إسرائيل. وكانت نينَوى مدينة عظيمة من بلاد الأشوريين، وبها جالية كبيرة من بني إسرائيل ممن مكثوا في بلاد ما بين النهرين بعد السبي البابلي، وقد أشارت هذه السورة إلى أن الذين أرسل إليهم كانوا في حدود 100 ألف، فهل هذا هو عدد بني إسرائيل في نينوى أم مجمل سكانها؟ الأمر غير واضح. وكانت المهمة الرسالية تقتضي منه مواجهة انحراف بني إسرائيل عن دينهم وشريعتهم.
- وحينما أوحى الله إليه بذلك عَظم عليه هذا الأمر، لصغر سنه، وقلة تجربته، ولأنه غريب بالنسبة
إليهم، فهو من بلد آخر. لذا خرج يونس من بلده نحو الغرب حتى وصل إلى ميناء على البحر الأبيض المتوسط، وركب السفينة، ثم هاج البحر ولم يستقر، ومن المحتمل أنه:
1. كان من عادة البحارة آنذاك أن يقدموا قرباناً بشرياً لما يعتقدون أنه إله البحر وذلك عن طريق القرعة كي يهدأ البحر.
2. أو لربما كانوا يعتقدون أن معهم شخصاً مشئوماً ولابد من التخلص منه كي يهدأ البحر، فخرجت القرعة من نصيب يونس.
3. كانت السفينة مهددة بالغرق بكل من فيها لكثرة ركابها كما يحصل مع سفن التهريب هذه الآيام، وهو ما يعكسه قوله تعالى: (ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ) أي المملوء بالراكبين، فصاروا يلقون ببعض الركاب تخلصاً من الحمل الزائد، وذلك عن طريق القرعة، وكان يونس أحدهم، فالتقمه الحوت.
- وبعد مروره بهذه التجربة الصعبة في بطن الحوت وتوبته إلى الله قذفه الحوت على الساحل، فقام برحلته إلى نينوى وأدى مهمته الرسالية.
- هذه الرواية متوافقة مع الرواية الكتابية، وأيضاً مع تسلسل الأحداث في سورة الصافات.
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ
- { إِذْ } ظرف متعلق بــــ { ٱلْمُرْسَلِينَ } ، أي أنه يبيّن الظرف المرتبط بالمسئولية الرسالية، كقوله تعالى في قصة غزوة بدر: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) في أي ظرف كان هذا؟ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) ]الأنفال:8-9].
- فالآية تبيّن الظرف المتعلق بتحميله المسئولية الرسالية، وهو (الإباق إلى الفلك المشحون)، أي فرار العبد مِن مالكه، فيقال: (عبد آبق). و { أبَقَ } فرّ من الله، وذلك بركوبه السفينة المملوءة بالركاب، وهو أمر خطر، إذ يعرّض نفسه للهلكة بسبب ذلك، وكأنه فضّل هذه المجازفة على تحمّل المسئولية الرسالية.
- (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ) وساهم قَارع، أي دخل القرعة، وفي البين جمل محذوفة تتعلق بالظرف الذي استدعى إجراء القرعة.
- الإِدحاض جعل المرء داحضاً، أي زالقاً غير ثابتِ الرِجلين، وهو استعارة للخسران والمغلوبية.
- (فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) الالتقام البلْع.
- والمُليم اسم فاعل من ألام، إذا فعل ما يلومه عليه الناس، والمراد أنه ألاَمَهم على نفسه.
- (فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) وفي سورة الأنبياء نص التسبيح: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) [87-88]. فأنجاه بسبب توبته، فقذفه الحوت إلى البر بعد أن مكث في جوفه مدة مختلف في تحديدها.
- (إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) التأبيد بأن يميت الله الحوت بعد ابتلاعه يونس، ويبقيهما في قعر البحر مثلاً، لا بمعنى بقاء الحوت ويونس في بطنه على قيد الحياة إلى يوم البعث.
- (فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ) فلفظه الحوت، وحَمِلهُ الموج إلى الشاطىء.
- النبذ الإِلقاء، وأسند نَبذه إلى الله لأن الله هو الذي سخر الحوت لقذفه من بطنه إلى شاطىء لا شجَر فيه، وهو ما تدل عليه كلمة (الْعَرَاء)، ما يدل ضمناً على خلوها من الناس، فهي ليست منطقة حضرية. وكان يونس قد خرج من بطن الحوت سقيماً، فقد أضرّ جوف الحوت بجلده.
- (وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ) هل هذا كان على نحو الإعجاز من حيث الإنبات في العراء وسرعة نمو الشجرة، أم تعبير مجازي مثل قوله: (فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء) والحال أن الحوت هو الذي نبذه؟
- أي أن التدبير الإلهي كان بحيث يصل إلى هذه المنطقة الخالية من الناس، الخالية من الأشجار، إلا اللهم شجر اليقطين هذا الذي نفعه كبر حجم أوراقه ومادته الغذائية.
- (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) أي أن الله أعاد تكليفه بالرسالة، فنهض بها، ونجح في إعادتهم إلى الإيمان بعد أن أشركوا وانحرفوا تأثراً بالوثنية المنتشرة في بلاد ما بين النهرين، وتمرّدوا عليه في البدء، ثم رجعوا إلى صوابهم حين رأوا علامات العذاب، فرفع عنهم، كما قال تعالى في سورة يونس: (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [98].