خطبة الجمعة 3 صفر 1443: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: لماذا خُلقت معاقاً؟

- ما ذنب الطفل المعاق إذا وُلد بهذه الصورة؟ ما ذنب هذا الطفل البرئ؟ لماذا لا يتدخل الله سبحانه وتعالى وهو الرحيم، وهو الذي على كل شيء قدير ليمنع هذا العذاب عن هذا الطفل، وعن أبويه أيضاً؟ أين رحمته من ذلك، وأين قدرته المطلقة؟
1. هذه واحدة من التفريعات الخاصة بإشكالية العلاقة بين الله الرحيم القدير وبين وجود الشرور في العالم، وقد انشغل العلماء والفلاسفة بهذه الإشكالية قبل الإسلام بقرون حتى صارت من فروع الدراسة الأكاديمية تحت عنوان الثيوديسيا Theodicy، وهي مطروحة عندنا ضمن فروع بحوث العدل الإلهي. والإجابة عليها هنا تصلح -في جانب كبير منها- للإجابة على الإشكالية الأصلية.
2. علينا أن نفهم كيفية إدارة الله عزَّ وجل للوجود مع الإيمان برحمته وعدله وقدرته المطلقة. فالله سبحانه قد خلق الوجود ضمن قوانين معينة، وسنَّ القوانين التي تَجري مِن خلالها حركة الوجود.
- الله خلق الشمس والكواكب والأقمار في منظومتنا الشمسية عبر قوانين طبيعية معينة، ثم جعل لحركتها وتفاعلاتها وانفعالاتها قوانين خاصة تستمر من خلالها في الوجود وتؤدّي دورها فيه.
- الله – في المجمل- لا يتدخل تدخلاً مباشراً في حركتها والأحداث المرتبطة بها بحيث يخرق بذلك تلك القوانين، فيمنع نيزكاً هنا، ويصد كويكباً هناك، ويردّ إشعاعاً شمسياً، وما إلى ذلك.
- هكذا الأمر بالنسبة لنا أيضاً كبشر، فقد خلقَنا ضمن قوانين معيّنة، وجعل تفاعلنا مع الوجود ضمن هذه القوانين، فإذا اخترقت السهام قلب الحسين (ع) فإنها تُؤثّر فيه فيسقط قتيلاً شأنه في
ذلك شأن أي إنسان آخر، ولا تتدخل يد القدرة الإلهية لتغيّر هذا القانون الطبيعي.
- أما الآيات (المعاجز) فأمر استثنائي وخاص جداً ضمن شروط معينة مرتبطة بالرسالة السماوية، ولا علاقة لها بالحركة العامة للوجود.
3. قال تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ) [الأنبياء:80]، وهي الدروع، وقال تعالى: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) [سبأ:10-11] بحيث تكون المسافات بين حلقات الدرع مقدرة بدقة لضمان مرونته وفعاليته الدفاعية في نفس الوقت.
- كان بالإمكان أن تتدخل يد القدرة الإلهية لتوقف قانوناً من قوانين الطبيعة حيث تمنع نصل السهام من اختراق جسد النبي داود (ع) أو التأثير فيه، ولكن الله لا يفعل ذلك، بل يجعل من هذا القانون الطبيعي تحدياً أمام الإنسان كي يبحث عن وسيلة لحماية جسده من تأثير نصل السهام، وهذا ما نجح فيه داود الملك والمقاتل.
- وهكذا بالنسبة إلى الأمراض والأوبئة والإعاقات، فقد تحولت إلى تحدٍّ طوال تاريخ البشرية فتطوّرت معها العلوم والوسائل الوقائية والصحية والعلاجية والتأهيلية... هذه هي سنة الله.
4. بعض الإعاقات ناشئة عن أخطاء يرتكبها الوالدان أو أحدهما قبل أو خلال فترة الحمل من خلال تناول بعض الأدوية الكيميائية أو المخدرات أو المسكرات، أو نتيجة التزاوج بين الأقرباء بكثرة، أو التعرض لإشعاع، وما إلى ذلك، وهو ما يستدعي منهم الوقاية أو الامتناع.
5. الاعتقاد بأن الدنيا هي نهاية المطاف وهي الحياة الوحيدة التي يعيشها الإنسان خطأ جوهري واعتقاد باطل يؤدي إلى القصور في فهم وتفسير الأمور، فالدنيا ما هي إلا محطة عابرة وقصيرة جداً لو أردنا أن نقارنها بالحياة الأبدية في الآخرة.
- ومن يُبتلى بشئ في هذه الحياة، فإنّ عدل الله سبحانه يستوجب أن يكون لذلك مدخلية في مصيره الأخروي وبشكل إيجابي، لاسيما مع الصبر، وهذا ينطبق على المعاق وعلى والديه أيضاً.
- (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157].
- عن النبي الأكرم (ص): (إِنَّ اللَّهَ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ). هذا مثال من أمثلة الإعاقة والأجر الأخروي على الصبر عليها.
6. بعض الإعاقات لم تمنع أصحابها من الإبداع، وبما يفوق إمكانات الأصحاء، بشرط توافر الإرادة والصبر والمثابرة، والأمثلة على ذلك كثيرة.
- وما الدكتور طه حسين، والدكتور عبدالرزاق البصير، وهيلين كيلر في مجال الأدب مثلاً إلا نماذج عابرة على أفراد لم تمنعهم إعاقاتهم من أن يتفوقوا على أقرانهم الأصحاء، وأن يحوزوا على مراتب مميزة جداً في اختصاصهم.
- إن ما ينبغي أن نفهمه في علاقة الله بحركة الوجود، وما فيها من شرور، ومن بينها ولادة الأطفال معاقين، أنه سبحانه هو الرب الخالق المدبِّر، ولكنه – في المجمل - يدير الوجود من خلال القوانين التي أودعها، لا من خلال التدخّل المباشر في مفردات الأحداث ليُغيّر مساراتها، وأن النظرة القاصرة المقتصِرة على الحياة الدنيا ونسيان الحياة الممتدة في الآخرة والتي تمثّل انعكاساً لتفاعلات الإنسان على مستوى الإيمان وعلى مستوى العمل من شأنها أن تخلق إرباكاً في فهم فلسفة الشرور في هذا الوجود.. (فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا).