الفرق بين الرسول والنبي - لماذا قص الله قصص المرسلين في هذه السورة ؟ الصافات 123-132

{ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } 123
- ذكرت السورة تجربة نوح (ع) مع قومه ابتداء من الآية 75، وكيف ووجهت دعوته بالرفض ثم كيف كان مصيرهم، بينما نجا هو وأهله من (الكرب العظيم) الذي هو الغرق في الطوفان، فكانت ذريته هي الباقية من بعد ذلك.
- ثم ذكرت تجربة إبراهيم (ع) مع أبيه وقومه، وكيف نجا من محاولة إحراقه، فكان ذلك نصراً عليهم، ثم هجرته، ثم اختباره بذبح ولده إسماعيل (ع)، ونجاحه في الابتلاء، فرزقه الله إسحاق (ع)، وذرية منهما، وامتداده في الزمن من خلال الصالحين من تلك الذرية.
- ثم ذكرت تجربة موسى وهارون، وكيف نجيا مع قومهما من (الكرب العظيم) الذي هو الغرق في اليم، ونصر الله لهم، وإتيان موسى وهارون الكتاب، وامتدادهما في الزمن عبر رسالتهما وذريتهما.
- وفي كل مرة تأكيد على فكرة (كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).
- بعد ذلك قدّم الله سبحانه تجربة النبي إلياس الذي هو من أنبياء بني إسرائيل، ومن الامتداد الصالح لإسحاق. وهو وإن لم يكن صاحب شريعة، ولكن الآية عبّرت عنه بعنوان أنه كان (لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ)، وهذا يستدعي أن نعيد فهم الاستعمال القرآني لهذا المصطلح ولمصطلح (الرسول)، إذ لا يراد منه المعنى الذي نستعمله للدلالة على أصحاب الشرائع.
- ولنلاحظ الآيات التالية:
1. (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) [البقرة:87].
- من الواضح أنه لا يوجد صاحب شريعة بين موسى وعيسى، ومع هذا أطلق على من بُعثوا من بعده بأنهم (رسل) والواحد منهم (رسول)، ومن بينهم إلياس مثلاً، ويونس، واليسع، وزكريا ويحيى.
2. أيضاً في سورة البقرة بعد ذكر موسى، ونبي من بعده لم يذكر اسمه، ولكن نعرف من الكتاب المقدس أن اسمه (صموئيل)، وداود، قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [البقرة:253].
3. (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا، وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)[النساء:163-165].
- المدار في صدق الأمر أن هذا المسمى بالرسول موكل بمهمة من الله سبحانه في إبلاغ الرسالة، كما قال عن النبي صالح (ع): (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف:79].
- فقد يكون نبياً: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) [الأعراف:94].
- وقد لا يكون، بل يكون مبعوثاً من قبل نبي، كما هو ظاهر حال المرسلين في سورة يس: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ) [يس:13-14].
- ولكنني لست متأكداً من هذا القسم بلحاظ أن القرآن لم يبين هويتهم، ولكن بحسب البحث الذي
قدمته مسبقاً حول الآيات يمكن أن نميل إلى ذلك.
- وقد يكون ملَكاً: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ... قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) [هود:77-81].
- ومن الرسل من وُصفوا بأصحاب العزم:(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)[الأحقاف35].
- وحتى نفهم المراد من أنهم (أُوْلُوا الْعَزْمِ) نرجع للقرآن فنجده يعتبر الصبر في طريق الرسالة والتقوى من العزم: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [آل عمران:186].
- ووصف إقدام آدم وعدم التزامه بالنهي الإلهي وعدم صبره بأنه عدم عزم: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) [طه:115].
- وفي وصايا لقمان أن الصبر على المصاب من العزم: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [لقمان:17].
- ووصف الصابرين الغافرين للآخرين إساءاتهم بأنهم أصحاب عزم: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [الشورى:43].
- لذا يمكن القول أن للعزم ارتباط وثيق بالصبر، ولربما نقرب معنى هذا بقوة التحمل والإرادة القوية التي تُترجم إلى الصبر.
- و(النبي) و(الرسول) و(النبوة) و(الرسالة) ليست من المترادفات، ولكل منها دلالتها الخاصة: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ... فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ) [الأعراف:157-158].
- ولعل عنوان الرسول بلحاظ حمله رسالة لتبليغها، أما عنوان (النبي) فبلحاظ اختيار الله له لينبئه ويوحي إليه بأمور من الغيب يختصه بها من سائر الناس: (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) [آل عمران:44]، (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء) [آل عمران:179]، (تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود:49]. فالذين يجتبيهم من الرسل يطلعهم على الغيب.
- يبدو أن نزول هذه الآيات التي ذكرت نوح فإبراهيم فإسماعيل وإسحاق فموسى وهارون فإلياس فلوط فيونس، جاءت في مرحلة شعر معها النبي (ص) والمؤمنون بالتهديد الوجودي، نكون أو لا نكون، وكأن البعض كان قلقاً على مستقبل الرسالة وغير مطمئن من تحقيق الغلبة على الشك في نهاية المطاف، فجاءت الآية لتقدم نماذج من تجارب المرسلين السابقين، وكيف أن الأمور وصلت إلى مرحلة حرجة ثم يتحقق النصر للرسل والمؤمنين، وتكون الهزيمة والدمار لأعدائهم، والاستمرار والبقاء للرسالة والمرسلين والمؤمنين.
- تم تأكيد هذا من خلال عدة بيانات:
1. نوح: (وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ... ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ) [76-82].
2. إبراهيم: (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ.... وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ... وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ) [98-113].
3. موسى وهارون: (وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ... وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ) [1115-119].
4. إلياس: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ) [129].
5. لوط: (إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ، ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ) [134-136].
6. يونس: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [147-148].
- ولذا أكد تعالى هذا المطلب في نهاية السورة بقوله: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ، أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ، فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ، وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) [171-179]... هذه هي سنة الله في الرسالات.
- وهي بشارة للنبي (ص) بزوال الشرك وامتداد الرسالة، وما عليه إلا الثبات والاستمرار والصبر لأن الأمر يحتاج إلى بعض الوقت.