رد المظالم - مجلس الحسينية الكاظمية - الكويت 1443 هـ

- في جانب من وصف أصحاب الميمنة: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) [البلد:17].
- يسعى الإنسان المؤمن أن يتّصف بصفة الرحمة في الحياة انطلاقاً مما وصف الله به ذاته.
- هو (الرحمن الرحيم) الذي أرادنا أن نذكره بها في ابتداء كل عمل من خلال البسملة.
- وكأنه يذكّرنا دائماً بأن لا نستسلم للوحشية والقساوة التي قد تغلب على تصرفاتنا ومواقفنا وردود أفعالنا، وهو القائل: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف:156].
- الجَنبة السبُعية في الإنسان قد تخرج عن عقالها، ويتحوّل معها الإنسان إلى كائن عديم الرحمة، ولو للحظات، وذلك نتيجة:
- ضغوطٍ مادية أو معنوية كبيرة: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ
قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا) [الإسراء:31].
- خوفٍ من فقدان شيء ثمين كالمُلك: افتقد العثمانيون لقانون ينظم توارث الحكم، لذا، كان أول ما ابتدأ به السلطان محمد الثاني (1451-1481) حكمه، هو قتل أخيه الرضيع أحمد.
- محمد الفاتح وضع بندا خاصا لقتل الإخوة، ضمن مجموعة “القانون نامه” الذي أصدره والذي جاء فيه: (وأي شخص يتولى السلطة من أولادي، فمن المناسب أن يقتل الإخوة من أجل نظام العالم، وأجازه أكثر العلماء فليعملوا به). وحصل الفاتح على تأييد الفقهاء، وأصبحت سنة عند سلاطين بني عثمان.
- وقال ابنه من بعده (بايزيد) عبارة تلخص الفكرة: (لا أرحام بين الملوك).
- تآمر سليم ابن بايزيد مع الإنكشارية على والده وأرغموه على التنازل، وهو ما أثار غضب أخيه أحمد، فثار على سليم، ولكنه هُزم وهرب، وقام سليم بقتل أولاد أحمد الخمسة، الذين كان أكبرهم يبلغ من العمر عشرون عاماً، وأصغرهم لم يتجاوز السبعة أعوام، ثم تمكن من أحمد وقتله، ثم قتل أخاه كوركود.
- بعد وفاة سليم الثاني، تولى الحكم مراد الثالث، فكان أول ما قام به، الأمر بقتل أخوته الخمسة (محمد، سليمان، مصطفى، جهانكير، عبدالله).
- عُقدٍ نفسية متراكمة: ابن حرام، فقير، محتقَر، يتحول إلى بلطجي، ثم ينضم لحزب ما، ثم يترأس الحزب، ثم يتحول إلى حاكم... كيف سيتصرف حينها؟
- ثأراً وانتقاماً من ظلم شديد: الجار وإحراق الشقة وزوجته.
- ومثال الشخصية التي لا مكان للرحمة في قلبها: الحجاج بن يوسف الثقفي. من ضمن جرائمه أنه كان له سجنان، أحدهما واسع الرقعة، ليس فيه ستر يستر الناس من الشمس في الصيف، ولا من المطر والبرد في الشتاء، وربما كان المسجون يستتر بيده من الشمس، فيرميه الحرس بالحجارة، وكان أكثر المحبوسين فيه مقرّنين بالسلاسل، وكانوا يطعمون الشعر المخلوط بالرماد، وخلّف الحجاج فيه، لما هلك، خمسين ألف رجل، وثلاثين ألف امرأة، وكان يحبس النساء والرجال في موضع واحد. وكان له سجن ثان يسمى الدِّيماس (من دمس: اشتدت ظلمته) والديماس الحفيرة في باطن الأرض، وكان كل جماعة من المسجونين يقرنون في سلسلة واحدة، فإذا قاموا، قاموا معا، وإذا قعدوا قعدوا معا، ولا يجد المسجون المقيد منهم إلا موضع مجلسه، فيه يأكلون، وفيه يقضون حاجتهم، وفيه يصلون. وقد وصف إبراهيم بن يزيد التيمي، وكان يعد من الزهاد، وقد منع الحجاج عنه الطعام، وأرسل عليه الكلاب تنهشه حتى مات. ولما مات رمى بجثته في الخندق، ولم يجرأ أحد أن يدفنه حتى مزقته الكلاب.
- قال عاصم بن أبي النجود، وهو أحد القراء المشهورين، حيث أن المصحف المتداول هو بقراءة حفص عن عاصم عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب: (ما بقيت لله عز وجل
حرمة إلا وقد ارتكبها الحجاج).
- قال ابن كثير في تاريخه: (وقد كان ناصبيا يبغض عليا وشيعته في هوى آل مروان بني أمية، وكان جبارا عنيدا، مقداما على سفك الدماء بأدنى شبهة. وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة ظاهرها الكفر).
- من خلال ما سبق ندرك أهمية التواصي بالمرحمة الذي جاء في آية سورة البلد بهدف:
1. تحقيق مجتمع متراحم عملياً.
2. تغليب الرحمة على القسوة.
- بحيث تكون القيادة رحيمة، سواء كانت قيادة سياسية أو دينية أو اجتماعية ككبار العشائر والأُسر، وحتى رب الأسرة مع أسرته.
- وبحيث يكون الجار رحيماً مع جاره.
- والصديق مع صديقه
- والزميل في محيط العمل وعلى مقعد الدراسة
- والتاجر مع الناس
- والعسكري مع المدنيين
- ومن هو على رأس عمل مع المراجعين
- والطبيب مع مرضاه
- ومقاول البناء مع المالك
- والمواطن مع الوافد
- ورب العمل مع الخادم... إلخ.
- ولنتذكر قول رسول الله (ص): (الرَّاحِمُونَ يَرحَمُهُم الرَّحمَنُ يَومَ القِيامَةِ)، وقوله: (مَن رَحِمَ ولو ذَبِيحةَ عُصْفُورٍ، رَحِمَهُ اللهُ يومَ القِيامةِ).
- كلنا نتطلّع إلى عفو الله عن أخطائنا، وإلى رحمته ومقابلته إساءاتنا بالإحسان، وهذا يَستدعي منّا أن نتخلّق بذلك فيما بيننا، ولذا قال علي فيما هو المروي عنه: (ارْحَمْ مَنْ دُونَكَ يَرْحَمْكَ مَنْ فَوْقَكَ، وَقِسْ سَهْوَهُ بِسَهْوِكَ‏، وَمَعْصِيَتَهُ لَكَ بِمَعْصِيَتِكَ لِرَبِّكَ، وَفَقْرَهُ إِلَى رَحْمَتِكَ بِفَقْرِكَ إِلَى رَحْمَةِ رَبِّكَ).
-ولكن قد يصدر عن الإنسان ما يظلم به الآخرين خلال تعامله معهم، فكيف يصلح؟
- عن شيخ من النخع قال: (قلت لأبي جعفر(ع): إني لم أزل والياً منذ زمن الحجاج إلى يومي هذا، فهل لي من توبة؟ قال: فسكت، ثم أعدت عليه، فقال: لا، حتّى تؤدي إلى كل ذي حقٍّ حقَّه). السبيل للفكاك من مظالم الناس هو التوبة والإصلاح:
1ـ الإصلاح في المظالم المادية يتم بإرجاع الحقوق إلى أصحابها، مع الاستغفار وعدم العود.
- (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة:160]
- (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران:89].
- (فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة:39]
2ـ وإن لم يمكن الوصول إلى صاحب الظلامة، بأية طريقة، مع الانتظار والبحث، فيتصدق به عنه، فعن يونس بن عبد الرحمن سُئل أبو الحسن الرضا(ع) وأنا حاضر فقال له السائل: (جعلت فداك، رفيقٌ كان لنا بمكة فرحل منها إلى منـزله ورحلنا إلى منازلنا، فلما انصرفنا في الطريق أصبنا متاعه معنا، فأي شيء نصنع به؟ قال: تحمله إلى الكوفة. قال: لسنا نعرفه ولا نعرف بلده ولا نعرف كيف نصنع؟ قال: إذا كان كذا، فبعه وتصدق بثمنه. قال له على من، جعلت فداك؟ قال: على أهل الولاية).
- وفي فترة البحث فليسجل في وصيته مثلاً أن هذا الشئ ليس له، وأنها أمانة أو ما شابه.
3ـ وإن كانت معنوية، من قبيل الغيبة والسب والنميمة والبهتان، فهنا ثلاث حالات:
- الأولى: أن لا يعلم المظلوم بأنك اغتبته مثلاً، فالأفضل في هذه الحالة أن لا تُعلِمه، وتستغفر له، وتحسّن صورته عند من اغتبته عندهم، وتعتذر أمامهم مما قلت.
- الثانية: أن يعلم المظلوم بذلك، فبالإضافة إلى ما سبق لابد من التسامح منه.
- الثالثة: أن تترتب على هذه المظلمة آثار، كآثار النميمة، فلابد من السعي لإصلاح ما أفسد.
- الرابعة: أن لا يملك القدرة على الوصول إليه بسبب موته مثلاً، أو غيابه، فليستغفر له.
- ففي الخبر عن الإمام الصادق(ع): (قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ وآله: مَن ظلم أحداً و فاتَه، فليستغفر الله له، فإنه كفارةٌ له).
- ويُنصح في مثل هذه الحالات عموماً أن يأتي المذنب بشئ من أعمال الخير ويهدي ثوابه إلى المظلوم.
- عن الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: (لما حضرت علي بن الحسين عليهما السلام الوفاة ضمني إلى صدره ثم قال: يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي عليه السلام حين حضرته الوفاة، وبما ذكره أن أباه أوصاه به، فقال: يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصر إلا الله).
- في بعض الأحاديث أن على الإنسان أن يفكر عندما يظلم أحداً، كأن يضرب زوجته أو ولده أو جاره أو الضعيف بغير حق، لأنه يملك قوة سياسية أو عسكرية أو اجتماعية أو عشائرية، أن يفكِّر بيوم القصاص، يوم يقوم الناس لربّ العالمين، فلا بد أن يدفعه ذلك إلى الامتناع عن الظلم.
- وعظ أمير المؤمنين(ع) الخوارج، وحذَّرهم من عاقبة أعمالهم قائلاً: (فبيّنوا لنا بماذا تستحلّون قتالنا والخروج من جماعتنا إن اختار النّاس رجلين، أن تضعوا أسيافكم على عواتقكم ثم تستعرضوا النّاس، تضربون رقابهم وتسفكون دماءهم، إنَّ هذا لهو الخسران المبين، والله، لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنَّفس التي حرَّم الله!)
- عن أمير المؤمنين(ع): (القصاص هناك شديد ليس جرحاً بالمدى ولا ضرباً بالسياط ولكنه ما يُستصغر ذلك معه)، لأن الله تعالى لا يضيع حق أحد، باعتبار أن شعار يوم القيامة: (الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ) [غافر:17].
- وللإمام زين العابدين في دعاء الإثنين هذه العبارة: (وَأَسْأَلُكَ فِي مَظالِمِ عِبادِكَ عِنْدِي، فَأَيُّما عَبْد مِنْ عَبِيدِكَ، أَوْ أَمَة مِنْ إمآئِكَ، كَانَتْ لَهُ قِبَلِي مَظْلَمَةٌ ظَلَمْتُها إيَّاهُ فِي نَفْسِهِ، أَوْ فِي عِرْضِهِ، أَوْ فِي مالِهِ، أَوْ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، أَوْ غَيْبَةٌ اغْتَبْتَهُ بِها، أَوْ تَحامُلٌ عَلَيْهِ بِمَيْل أَوْ هَوَىً، أَوْ أَنَفَة، أَوْ حَمِيَّة، أَوْ رِيآء، أَوْ عَصَبِيَّة غائِباً كانَ أَوْ شاهِداً، وَحَيّاً كانَ أَوْ مَيِّتاً، فَقَصُرَتْ يَدِي، وَضاقَ وُسْعِي عَنْ رَدِّها إلَيْهِ، وَالتَّحَلُّلِ مِنْهُ. فَأَسْأَلُكَ يا مَنْ يَمْلِكُ الْحاجاتِ، وَهِيَ مُسْتَجِيبَةٌ لِمَشِيَّتِهِ، وَمُسْرِعَةٌ إلى إرادَتِهِ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَأَنْ تُرْضِيَهُ عَنِّي بِما شِئْتَ، وَتَهَبَ لِي مِنْ عِنْدِكَ رَحْمَةً، إنَّهُ لا تَنْقُصُكَ الْمَغْفِرَةُ، وَلا تَضُرُّكَ المَوْهِبَةُ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ).
- إن مسألة حقوق الناس بمستوى من الأهمية حتى أننا نجد أن مسلم بن عقيل لما أخبره ابن زياد أنه مقتول لا محالة: (قال: دعني إذاً أوصي إلى بعض القوم. قال: أوصِ إلى من أحببت. فنظر ابن عقيل إلى القوم وهم جلساء ابن زياد، وفيهم عمر بن سعد فقال: يا عمر، إن بيني وبينك قرابة دون هؤلاء، ولي إليك حاجة، وقد يجب عليك لقرابتي نُجح حاجتي، وهي سرّ، فأبى أن يمكّنه مِن ذِكرها، فقال له عبيد الله بن زياد: لا تمتنع من أن تنظر في حاجة ابن عمك، فقام معه وجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد، فقال له ابن عقيل: إن عليَّ بالكوفة ديناً استدنتُه مذ قدِمتُها تقضيه عنّي حتى يأتيك مِن غَلّتي بالمدينة، و جُثَّتي فاطلبها من ابن زياد فوارها، و ابعث إلى الحسين مَن يرده. فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال؟ قال: اكتم ما قال لك، قال: أتدري ما قال لي؟ قال: هات، فإنه لا يخون الأمين، ولا يؤتمن الخائن. قال: كذا وكذا، قال: أمّا مالك فهو لك، ولسنا نمنعُك منه فاصنع فيه ما أحببت، وأما حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده، وإن أرادنا لم نكفّ عنه، وأما جثته فإنا لا نشفعك فيها، فإنه ليس لذلك منا بأهل، وقد خالفَنا وحرص على هلاكنا. ثم قال ابن زياد لمسلم: قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد من الناس في الإسلام).
إنا لله وإنا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين.