خطبة الجمعة 19 محرم 1443: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الكافي وتهمة تحريف القرآن

- ذكرت في الخطبة الأولى أن واحدة من أخطر الإشكالات التي أثيرت على الكافي، وبالتالي على الكليني نفسه، اشتمال الموسوعة على أحاديث تقول بتحريف كتاب الله العزيز، فكيف يمكن الوثوق بهكذا كتاب، وهو الذي يعتبر مصدراً للحديث عند الإمامية على مستوى المسائل العقدية والشرعية والأخلاقية والتاريخية وغيرها؟

- مثلاً، من بين روايات الكافي في مسألة تحريف القرآن الرواية التالية الموثقة سنداً: (عن أبي عبدالله (ع): إن القرآن الذي جاء به جبرئيل (ع) إلى محمد (ص) سبعة عشر ألف آية). أي تقريباً ثلاثة أضعاف ما هو موجود فعلياً في القرآن، وبالتالي فالقرآن الذي نتلوه ناقص بشكل كبير.
- وفي معرض الرد على هذا الإشكال يمكن أن نقول:
1. رواية الكليني لخبر من الأخبار لا تعني بالضرورة إيمانه بمضمونه، خاصة وأنه جاء بالرواية السابقة وغيرها مما قد يفسَّر على أنها تدل على التحريف ضمن باب (النوادر).
- وقد اعتاد العلماء على وضع هذا الباب لإدراج الأخبار الشاذة فيه، وهي التي لا يؤخَذ بها مِن قبل أهل الحديث حتى لو كانت معتبرة سنداً لوجود شبهة وصول يد الدس أو التزوير إليها.
- قال الشيخ المفيد تعليقاً على بعض الروايات الواردة في باب النوادر: (إن هذه الروايات مثبتة في أبواب النوادر، والنوادر هي التي لا عَمل عليها).
- وموقف العلماء هذا نابع من كلام الأئمة (ع)، فقد روي عن الباقر (ع) أنه قال: (يا زرارة، خذ بما اشتُهر بين أصحابك، ودع الشاذ النادر).
2. قال الكليني في أول كتابه: (فاعلم يا أخي، أرشدك الله، أنه لا يسع أحداً تمييزُ شيء مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء إلا ما أطلق عليه العالم: اعرضوها على كتاب الله، فما وافق كتاب الله عزوجل فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه).
- وحيث أنه روى روايات متعارضة حول تحريف القرآن، فسيكون معياره في الترجيح هنا هو الأخذ بما وافق كتاب الله، وفيه قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9]، فتكون روايات التحريف ساقطة عن الاعتبار مضموناً، وإن كانت معتبرة سنداً، أو لربما تحتاج إلى معالجة بطريقة أخرى.
- مثلاً، الرواية السابقة التي تذكر أن عدد آيات القرآن سبعة عشر ألف آية، رواها الفيض الكاشاني (ت1091هـ) في كتابه الوافي الذي يشمل الكتب الأربعة: (سبعة آلاف آية)، والظاهر أن النسخة التي كانت المتوفرة لديه من الكافي لم تشتمل على كلمة سبعة عشر ألف آية.
- قال الشيخ أبوالحسن الشعراني في تعليقاته على شرح أصول الكافي للمازندراني: (فكلمة [عشر] زيدت قطعاً من بعض النساخ أو الرواة، وسبعة آلاف تقريب كما هو معروف في إحصاء الأمور لغرض آخر غير بيان العدد).
- فعدد آيات القرآن الكريم -بحسب نسخة المصحف العثماني المتوفر حالياً بيد الناس- 6236 آية، مع 112 آية بسملة غير مرقمة، فالعدد الكلي 6348 آية. مع ملاحظة عدم وجود اتفاق على عدد الآيات فيما هو أكثر من الستة آلاف، وذلك بسبب أن بعض القراء ونسخ المصاحف كانت تُقسِّم بعض الآيات إلى آيتين، فيزيد المجموع وينقص بحسب ذلك.
- قال السيوطي في (الإتقان في علوم القرآن): (قَالَ الدَّانِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَدَدَ آيَاتِ الْقُرْآنِ سِتَّةُ آلَافِ آيَةٍ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَزِدْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَمِائَتَا آيَةٍ وَأَرْبَعُ آيَاتٍ، وَقِيلَ: وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: وَتِسْعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ، وَقِيلَ: وَسِتٌّ وَثَلَاثُونَ).
- وهذا الاختلاف لا يؤثِّر في القرآن شيئاً، فلا زيادة ولا نقصان في المضمون، بل الاختلاف في ترقيم الآيات فقط، لأنه أمرٌ جرى بعد وفاة رسول الله (ص) بزمن طويل.
- مثلاً: بعضهم كتب: [ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)]، وبعضهم: [ص(1) وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (2)].
3. في صحيح البخاري ومسلم روايات تقول بأنه كانت في القرآن آيات، كآية الرجم، وعدد الرضعات، وروى ابن حزم في المحلى عن زر بن حبيش: (قال لي أبي بن كعب: كم تعدّون سورة الأحزاب؟ قلت: إما ثلاثا وسبعين آية أو أربعاً وسبعين آية. قال: إن كانت لتقارن سورة البقرة أو لهي أطول منها) قال ابن حزم: (إسناده صحيح كالشمس).
- ومن المعلوم أنها لم تعد موجودة في القرآن، فهل نطالب برفض الأخذ بهذه الكتب ككل؟
- وإذا تم توجيه هذه الروايات في الصحيحين بأنها تتحدث عن آيات منسوخة التلاوة، فلماذا لا يطبق ذلك على روايات الكافي؟
4. حتى لو قلنا باعتقاد الكليني وتبنّيه لهذا القول، فإنه يتحمل مسئولية ذلك كفرد، ولا يُحمَّل المذهب ككل وزر ذلك.
- من مجمل ما سبق يمكن القول أن اتهام العلامة الكليني بالقول بتحريف القرآن الكريم بسبب بعض الروايات في موسوعته الكافي تهمة لا تصمد أمام النقد، والجميع مدعوون إلى تحرّي الدقة في الحكم، وعدم اتهام طرف لآخر بشيء لوجود روايات في بعض مصادره، ما لم يصرّح هذا الطرف بتبنّيه ذلك الرأي بشكل واضح وأكيد، فلا يصح للسني أن يتهم الشيعي بالقول بتحريف القرآن لوجود روايات في كتب الشيعة تدل على ذلك، ولا يصح للشيعي أن يتهم السني بذلك لوجود روايات في كتب أهل السنة تدل على ذلك، فاعتقادات المذاهب لا تؤخذ من الروايات، ولا من مؤلفاتهم غير المتفق عليها، بل من الكتب المؤلَّفة بهذا الشأن والمعتمدة لديهم، ولا يخفى أن الشيعة والسنة متفقان على القول بعدم تحريف كتاب الله العزيز، فلا معنى بعد ذلك للتراشق بالكلمات الجارحة وتبادل التهم بين الطرفين.